حسن أبو هنية

لا جدال أن تنظيم «الدولة الإسلامية ــ داعش» راهن منذ بروزه في العالم العربي على خلق انقسامات مجتمعية على أسس هوياتية دينية، وقد كانت رهاناته في العراق واضحة باستثمار الانقسام السني الشيعي، وعقب تمدد التنظيم إلى مصر عمل على تأجيج المسألة الطائفية من خلال استهداف المكون المسيحي القبطي في سبيل خلق حالة من الاستقطاب الشديد تدفع بالمكونات المسيحية إلى تبني خيارات راديكالة تجاه الدولة والمجتمع.

في سياق اللعبة الطائفية تبنى تنظيم «داعش» مسؤولية هجوم المنيا جنوب مصر الذي استهدف حافلة تقل أقباطا في 26 مايو والذي أسفر عن وقوع 28 قتيلا، حيث قالت وكالة أعماق التابعة للتنظيم: إن مفرزة تابعة للتنظيم نصبت كمينا محكما لمن وصفتهم بـ»عشرات النصارى المحاربين» أثناء توجههم إلى كنيسة صموئيل ما أدى إلى مقتل 31 شخصا وإصابة 24 آخرين وإحراق سيارة.

رغم تشديد بيان الكنيسة القبطية على ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية التي قالت إنها أثمن ما يملكه المصريون، إلا أن ذلك لم يحل دون بروز مظاهر الحزن التي سرعان ما انقلبت إلى موجة غضب ومسيرة احتجاج ردد خلالها الشبان هتافات تطالب بالانتقام، الأمر الذي دفع الرئيس المصري بعد ساعات من الهجوم إلى القول بوجوب معاقبة الدول التي تدعم الإرهاب وتقدم له المال والسلاح «من دون مجاملة أو مصالحة»، وأضاف عقب اجتماع أمني مصغر بأن هناك جهات تسعى لضرب الاقتصاد والسلام الاجتماعي في مصر، وقال أنه أوعز لسلاح الجو المصري بشن غارات على ما سماه معسكرات إرهابية في ليبيا، وأضاف أن الغارات دمرت المركز الرئيسي لمجلس شورى مجاهدي درنة.

يمكن فهم الضربات الجوية المصرية في درنة كخطوة رمزية لامتصاص الغضب والحزن لدى الأقباط، وفي سياق البرهنة على عزم الحكومة المصرية على ملاحقة «الإرهابيين» المفترضين في أي مكان وزمان، لكن ذلك لا يعفي من الاعتراف بأن جميع عمليات التنظيم نفذت على يد مصريين، كما أن العلاقة المفترضة بين تنظيم «الدولة الإسلامية» ومجلس شورى مجاهدي درنة يصعب تصديقها نظرا للعداء المستحكم بين الطرفين، فقد دخل الطرفان في صراع مسلح أفضى إلى طرد تنظيم الدولة من درنة.

تشكل الهجمات المتتابعة والمتسارعة على الأقباط في مصر تحديا كبيرا وخطيرا، ذلك أن لعبة الهويات الطائفية يصعب التنبؤ بنتائجها ومآلاتها، وقد استخدمت الأنظمة الاستعمارية سلاح الطائفية للتحكم والسيطرة كاستراتيجية فعالة لخلق انقسامات واستقطابات، تعمد الأنظمة الدكتاتورية إلى استثمار الخلافات الإثنية والدينية كاستراتيجية للضبط والترويع.

لم تكن عملية استهداف الأقباط في المنيا منعزلة، فقد بعث تنظيم الدولة الإسلامية برسالة واضحة باستهداف الكنائس خصوصا والأقباط عموما حيث أراد التنظيم خلق حالة من الشك في قدرة النظام على حماية الأقليات التي طالما شدد على قدرته على دحر الإرهاب وجلب الاستقرار وتحدث عن القضاء على ولاية سيناء، ففي سياق توسيع دائرة الاستهداف وضع التنظيم الأقباط في خانة «الصليبيين» وعلى الرغم من الثيمة الدينية إلا أن التنظيم كان واضحا في معاقية الأقباط بسبب موقف غالبيتهم المؤيدة للسيسي ففي 15 فبراير 2015 نشر تنظيم الدولة الإسلامية فيديو يُظهر ذبح 21 عاملًا قبطيًّا مصريًّا اختُطفوا قبل ذلك ببضعة أشهر في مدينة سرت الليبية.

تصاعدت عمليات تنظيم الدولة باستهداف الأقباط بوتيرة عالية بدأت مع استهدف الكنيسة البطرسية في 11 ديسمبر 2016 والتي تتمتع بحماية كبيرة في حي العباسية في القاهرة حيث أسفر الهجوم الانتحاري عن مقتل 25 فردًا في الكنيسة وكانت الصدمة أكثر خطرا عندما أعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجوم باسم «الدولة الإسلامية في مصر» بدلا من ولاية سيناء الأمر الذي بدا رسالة واضحة تكشف عن تمدد التنظيم في عموم مصر عبر شبكات وخلايا.

تهديدات تنظيم الدولة لم تكن مفاجئة باستهداف الأقباط، فقد تتالت رسائله التهديدية، حيث أصدر تنظيم «الدولة الإسلامية ــ مصر» شريطا في ١٩ فبراير ٢٠١٧ توعد فيه بتنفيذ عمليات ضد الأقباط في مصر خلال الفترة المقبلة، وختمها برسالة واضحة تؤسس لحرب طائفية بوضع الأقباط كهدف مفضل، حيث قال: «أيها الصليبيون في مصر إن هذه العملية (البطرسية) التي ضربتكم في معبدكم لهي الأولى وبعدها عمليات، وإنكم لهدفنا الأول وصيدنا المفضل ولهيب حربنا».

في سياق إظهار عجز النظام عن حماية الأقباط وعدم سيطرة الجيش على سيناء نفذ تنظيم ولاية سيناء حملة ترويع ضد الأقباط في مدينة العريش بسيناء بين يناير وفبراير 2017 حيث قتل 7 أفراد الأمر الذي دفع عددا كبيرا من العائلات المسيحية نحو مئة عائلة إلى الفرار وأثار غضبًا شديدًا في الأوساط القبطية وخلق شكوكا حول قدرة الأمن والجيش على الوقوف في وجه تنظيم الدولة في سيناء.

تهديدات تنظيم الدولة لم تكن مجرد دعاية للتخويف والترويع، فقد توالت عمليات التنظيم ففي 9 إبريل 2017 استهدف التنظيم كنيستين بمدينتي طنطا والإسكندرية، وقد أسفرتا عن مقتل 45 شخصا وجرح 125 آخرين، الأمر الذي حمل الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إعلان حالة الطوارئ في عموم مصر لمدة ثلاثة أشهر، وهو إجراء استثنائي لم يحل دون وقوع هجمات أخرى، وقد أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن تفجير الكنيستين وتوعد بمزيد من الهجمات عبر وكالة أعماق التابعة له وكشف عن هوية منفذي تفجيري كنيسة مارجرجس في طنطا والكنيسة المرقسية في الإسكندرية وقال التنظيم إن «أبو إسحاق المصري»، فجّر سترته الناسفة في كنيسة مارجرجس بطنطا، فيما فجر «أبو البراء المصري» سترته الناسفة في الكنيسة المرقسية بالإسكندرية وقال التنظيم في بيانه إن حصيلة التفجيرين بلغت نحو 50 قتيلا، و140 جريحا، واعتبرهم جميعا من «الصليبيين المحاربين».

تلخص سيرة تنظيم الدولة الإسلامية وتطوراته في مصر مسارات فشل التحولات السياسية وبناء الديمقراطية والتعددية فقد ظهر التنظيم بداية باسم جماعة «أنصار بيت المقدس» في 5 فبراير 2011 بأهداف محددة تقتصر على أولوية مهاجمة إسرائيل، وقد تحولت إيديولوجية الجماعة تدريجيا عقب الانقلاب العسكري إلى أولوية استهداف الجيش المصري وأجهزة الأمن ومع تصاعد الحملة العسكرية على مواقع التنظيم في سيناء أعلنت عن تأسيس «ولاية سيناء» والانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية في 14 نوفمبر 2014 حيث تبنت إيديولوجية تستند إلى توسيع دائرة الاستهداف لتشمل من تطلق عليهم «المرتدين» و»الصليبيين».

خلاصة القول أن تنظيم الدولة الإسلامية سوف يذهب بعيدا في خلق انقسامات على أسس هوياتية طائفية مصر بين المسلمين والمسيحيين الأقباط، وهي استراتيجية عملت القوى الكولينيالية الاستعمارية على تأجيجها للهيمنة عبر سياسات فرق تسد، واستخدمتها الأنظمة السلطوية كآليات للضبط والتحكم، وبهذا لن نشهد توقفا للعمليات ضد الأقباط في مصر، الأمر الذي سيضع النظام المصري بقيادة السيسي في وضع حرج على الصعيدين الداخلي والخارجي، وذلك بإظهاره في حالة من العجز عن حماية الأقليات.