صورة الطفل السوري الغارق آلان كردي هزّت العالم في وقتها. لا بد أن تتساءل بعد أن تشاهدها: لماذا يموت هذا الملاك الصغير بهذه الطريقة؟ منكبّاً على وجهه المنغمس في رمال البحر الباردة. ثم رأينا بعد ذلك الطفل عمران وهو مصاب بالفزع من القصف والدماء تلطّخ وجهه. هذه الأحداث تجعلك تشكّك بجدوى ومنطقيّة الحياة. ولكن العدالة أخذت - بفضل الله - مجراها في النهاية. هؤلاء الأطفال في بلدهم، والأسد منفيٌّ وهارب، ومعزول في شقّته الفاخرة.

عندما روى بعض هؤلاء الصغار المُعذَّبين قصصهم في احتفال سقوط الأسد وأبكوا الحاضرين، شعرتُ بكمّ الآلام والندوب العميقة في النفسيّة السورية. سنوات طويلة من الحكم البوليسي الرهيب ستترك خلفها جروحاً عميقة تحتاج إلى سنوات طويلة حتى تُعالج. ولا يعني هذا أن دولنا العربية واحات للحريات، ولكن الأنظمة البوليسية - مثل نظام الأسد - التي تسحق قيمة الإنسان وتفقِره وتُعذّبه وتفتقد لأبسط درجات العدالة والأخلاقيات، لا يمكن أن تستمر. وستظلّ مصدراً للقلاقل والفوضى والابتزاز على المستوى السياسي، ورحيلها مفيد للدول الناجحة التي تبحث عن الاستقرار والتركيز على التنمية.

مهمة الرئيس السوري أحمد الشرع مفصلية وتاريخية وليست سهلة. عندما احتضنه هؤلاء الأطفال والصغار الدامعون، فإنهم يرون فيه الرجل القادر على تخليصهم من تلك الذكريات المظلمة والأوجاع العميقة.

رجال الدولة المخلِصون والصادقون هم القادرون على طيّ هذا الفصل المُظلم من التاريخ السوري: كيف يثبت حكمه ويحافظ على وحدة بلاده من الساعين إلى تمزيقها، وكيف يعيد بناءها من جديد، وكيف يستقطب الكفاءات ويُبعد المنافقين ويحارب الفاسدين، وكيف يكسب ثقة القلقين ويجمع المختلفين، ويقف في وجه المخربين، ويضمن - فوق كل ذلك - معالجة هذه الجروح العميقة والندبات الغائرة.

مهمة صعبة ودقيقة؛ فالقوة مطلوبة لأن الضعف يُغري الأشرار بالانقضاض، ولكن القوة المفرطة ستحرّك الجروح النفسية الغائرة من جديد. ومهمة رجل الدولة الأولى أن يحافظ على كيان وطنه ويمنعه من التمزق والتقسيم، وفي الوقت نفسه يجعل منه دولة ناجحة ووطناً للجميع من كل الأعراق والأديان والثقافات. نتذكر أن الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن قضى أغلب فترة حكمه في الحرب الأهلية؛ لأنه لم يُرِد أن تتمزق بلاده وتنتهي للأبد. لو لم يفعل ذلك، لما عرفنا أميركا القوية التي نعرفها اليوم، ولتشظّت إلى دويلات متفرقة.

فيما يخص البناء السياسي لمنظومة الحكم، فإن للعالم السياسي هانتغتون وجهة نظر أجدها منطقية: بناء الديمقراطية لا يرتبط بالتحديث فقط، بل بتطوير المؤسسات والثقافة. فحتى لو كانت الدولة ناجحة اقتصادياً، فإنها ستفشل في التحول إلى ديمقراطية إذا كانت تفتقر إلى بنية سياسية ناضجة ومؤسسات حكم مستقرة، فكيف إذا كانت فقيرة؟ سيكون الوضع بالطبع أكثر تعقيداً. وهذا سرّ تعثر التجربتين العراقية والأفغانية؛ لأن الديمقراطية فُرضت من الأعلى، لا من الأسفل. لم تمدّ جذورها العميقة داخل المجتمع. فُرضت بالقوة لكنها تحولت إلى شكلية. ومن دون دولة قوية ومؤسسات، وحكم قانون ومحاسبة، وثقافة تُبنى على فترات طويلة وبنار هادئة، وعلى إيقاع الساعة السورية فقط، فإن الديمقراطية المولودة قسرياً ستولد مريضة. تستحق سوريا، بعد عقود صعبة وأوجاع عميقة، فرصة ثانية.