سمير عطا الله
لا شيء يبعث في نفسي الرعب مثل كلمة «محكمة» أو «حكم» أو «أحكام». والحمد لله الذي أعفى وعفا. وقد قاربت المحكمة مرتين: الأولى في مطار هيثرو، حيث اعتقدت أن الساعة التي أحملها من المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان، أمير البحرين، هدية معفاة من إعلانها في الجمرك. لكنها لم تكن كذلك، والجهل بالقانون لا يشكل براءة. لذا، خيّرت بين أن أدفع الغرامة مباشرة، أو أن أدافع عن نفسي في «المحكمة». طبعاً اخترت الغرامة. قال الموظف إنها تماماً في ثمن الساعة. قلت، مع الامتنان.
المرة الثانية كانت في قبرص. أوقفت سيارتي أمام المبنى الذي أسكن فيه خلال موعد الإغلاق التجاري. ويبدو أن ذلك لا يشكل عذراً. قرع الشرطي بابي ومعه دفتر كبير أحمر وقلم طويل أصفر، وقال في لهجة تأديبية إنه سيحرر مخالفة لا تدفع إلا في المحكمة. ولماذا المحكمة يا حضرة الأفندي؟ لأن الشكوى جاءت من المواطن الذي أوقفت السيارة أمام مخزنه.
هل من سبيل آخر، كأن أدفع عشر مخالفات لكن خارج المحكمة؟ رقّ قلب الأفندي وقال، خلِّها مخالفة واحدة شرط أن تسددها خلال ثمانية أيام. قلت سوف أكون في مركز البريد خلال ثماني دقائق. تذكرت المتهمين الذين كانوا يقفون في محكمة «أولد بيلي»، أم المحاكم في إنجلترا (وليس في بريطانيا كلها). كان هؤلاء يرتعدون من الخوف، فتقدم لهم هيئة المحكمة أعشاباً منشطة تحميهم من الانهيار والإقرار بما لم يفعلوا.
هل مرَّ أحد من مشاهير العرب في الـ«أولد بيلي»؟، مصطفى سعيد، بطل «موسم الهجرة إلى الشمال». لقد مرَّره الطيب صالح من هناك بتهمة قتل زوجته، جين موريس، طبعاً غير كاتبة الأسفار الشهيرة التي قاربت التسعين. وكان القاضي في «أولد بيلي» أيضاً يُعطَى نوعاً من الورود المنشطة، يضعها أمامه على الطاولة، لكي لا يضعف هو أيضاً، أو كذلك لا يستقوي. هل هذه ذروة العدالة؟ ليس للعدالة ذروة، ولا للظلم قعر. لكن يقول الدكتور وسيم حرب، رئيس «المركز الدولي لحكم القانون»، إن من أكثر الحقول تأثراً بالإنسان الآلي سوف يكون القضاء. «فالقاضي الآلي»، في المستقبل، سوف يصدر أحكامه استناداً إلى مجموعة أحكام وقوانين سابقة من دون أن يتأثر بأية مشاعر، سلبية أو إيجابية حيال المتهم. وفوق ذلك، فهو غير قابل للرشوة، أو الإقناع، أو التلاعب بقناعاته. طبعاً، لن يبدأ حضرة القاضي الآلي عمله غداً. فلا بد من تجارب وأبحاث كثيرة وسنوات طويلة قبل أن تغني له فيروز «اسمع يا جناب القاضي»، شاكية الشاويش الذي صادر كل حياتها: عربية البندورة! وكان ذلك قبل أربعين عاماً من عربة محمد بو عزيزي، التي أشعلت في هذه المنطقة حرائق لا نهاية لها. كان بو عزيزي يعتقد أنها مجرد نار من أجل أن يطعم العائلة.. . .
التعليقات