عبدالله بشارة

في منتصف الستينات، كان سمو الشيخ صباح الأحمد وزيراً للخارجية، تولى المأمورية التاريخية بتصفية الأجواء بين القاهرة والرياض، وتنقل بين البلدين عدة مرات، واستضاف المباحثات في الكويت. كانت الحالة العربية سيئة، ومشكلة اليمن أعقدها، وبين القاهرة والرياض حرب البقاء.
في تلك الظروف، حمل الملك فيصل ملفاً إقليمياً ثقيلاً، شرحه للرئيس جونسون بكثير من الهدوء، وبكثير من التفاؤل. فيشير في بداية اللقاء إلى معاناة السعودية من قلة العناصر الوطنية في مجالات الطب والتدريس والاجتماعية، مع إصرار على التغلب على هذه المشكلة، ثم تناول الوضع الإقليمي بتأكيد سياسية الصبر والحكمة، لا سيما حول مشكلة اليمن، مع ارتياح من الدعم الأميركي لسلامة المملكة، وإسداء النصح لواشنطن بعدم التهاون مع القوى المعارضة للاعتدال والساعية إلى نشر أيديولوجيات خطرة.
تناول الملك الوضع في اليمن بالتزام المملكة باتفاقية «جدة» مع مصر، ويشير إلى تصرفات استفزازية من الطرف الآخر، قد تجبر السعودية على اتخاذ إجراء وقائي.
انتقد الملك فيصل حكومة بريطانيا، لعدم تجهيز عناصر جنوبية قادرة على إدارة الحكم تمهيداً للانسحاب، ومطلوب من واشنطن التشاور مع بريطانيا لتأمين الهدوء في الجنوب ومقاومة الفوضى.
كما يتحدث الملك فيصل عن سلاح الإعلام الذي يلجأ إليه خصوم الاعتدال لتخويف المجتمعات في المنطقة مع ضرورة وضوح موقف أميركي صلب يردع المغامرين، كما استذكر بأنه ناشد حكومة الولايات المتحدة في عام 1962 بالتمهل في الاعتراف بالنظام الجديد في اليمن حتى تتضح التوجهات، وأضاف أن الخصوم ينتقدون المملكة والملك شخصياًَ، لأنه يزور واشنطن مع إعلان أميركا إمداد إسرائيل بالأسلحة، ولم يهتم بالإعلام المضاد.
وعلّق الرئيس جونسون بأن واشنطن تجد صعوبة في التفاهم مع بعض الحكومات رغم علاقاتها مع مئة وعشرين دولة، ونبه إلى الامتناع عن التحريض على عمل ما دون الاستعداد لدعم هذا التحريض بقوة السلاح، وأكد حرص واشنطن على سلامة المملكة، والتزامها بهذا الموقف، كما أشار إلى أن بيع السلاح للآخرين مثل إسرائيل للدفاع ووقاية من الحرب.
كما علّق جونسون على العلاقات بين واشنطن والقاهرة بأن الهدف الحفاظ على قدر المستطاع من التواصل مع الرئيس عبدالناصر، لا سيما حول اليمن، وأن واشنطن تلتزم بمقاومة العدوان المباشر وغير المباشر، ومساعدة الدول في برامج التنمية، والحلول السلمية للنزاعات.
التقى الملك فيصل مع الصحافة في نادي الصحافيين، ورداً على سؤال عن رفض المملكة إعطاء تأشيرة لليهود الأميركان، أجاب الملك بأن المملكة تحترم الأديان، ولكن الاعتراض على الصهيونية كحركة معادية لنا ومجسّدة في إسرائيل، وأغلبية يهود أميركا يدعمون الصهيونية، ولذلك لا نرحب بهم.
ظهرت معارضة يهودية قوية في نيويورك ضد دعوة عمدة نيويورك جون لينزي لحفلة عشاء على شرف الملك فيصل، مع رجال المال والأعمال، واستسلم عمدة نيويورك للضغوط الصهيونية وألغى الدعوة، هنا اقترحت الخارجية الأميركية تمديد زيارة الملك في واشنطن ومواصلة المباحثات، ولكن الملك فيصل رفض ذلك، وأصر على زيارة نيويورك، حيث دعا مجموعة من رجال الأعمال والسياسة من الأميركيين وغيرهم إلى حفل عشاء في فندق ولادوف أستوريا، أشهر فنادق نيويورك.
لم يكن الملك فيصل يتوقع أن تتوافق واشنطن مع آرائه حول القضايا العربية، وكان مقتنعاً بتجديد تأكيد واشنطن دعم المملكة وحماية استقلالها والحفاظ على سلامتها إذا لزم الأمر، ولكن الأهم أن الملك كسب احترام الرئاسة وأركان الحكومة ورجال الأعمال، الذين أشادوا بتواضعه وحكمته واعتداله تجاه مخاطر واستفزازات إقليمية.
يلاحظ أن الملك فيصل أصر على أن يقابل الرئيس جونسون بمفرده من دون مستشاريه، من الذين يشك في موضوعيتهم، وهم الإخوان الروستو وبعض المتعصبين، واكتفى الملك بحضور مترجم فقط، كما سعى إلى أن يبتعد عن إثارة واشنطن ضد خصومه من العرب، وحافظ على وقار المباحثات بالتركيز على مبادئ عامة، أهمها الصداقة التاريخية بين واشنطن والرياض.
كما اختار الملك فيصل الابتعاد عن الصخب الإعلامي، وأحيا مفهوم القائد الخادم ـــ Servant Leaderr، الذي جسّده الملك عبدالعزيز، الذي كان شاملاً في مواصفات الحكم بين البساطة والتداخل الإنساني، ورفض مظاهر أبهة السلطة، وقدّم لوحة عن ملك يرافق الناس ويحاورهم وهو قطعة منهم.
انفجرت حرب يونيو بعد سنة، وتبخرت أحلام وتلاشت أوهام.