صالح الديواني
المؤكد أننا أمام تحولات تاريخية، تستدعي ضرورة بلورة مواقفنا من الحداثة، لتصب فيما يزيد من وعينا بالمتغيرات، وجعلها مشروعا مجتمعيا حقيقيا
الدعوة إلى تقدير التفكير والعقل ومنطقه، ليست دعوة لصنع وثنية جديدة يمثلها العقل، ولكنها محاولة لتحريض الإنسان على الوثوق بالعقل ومنهجه ومنهجيته، وفحص نتائج عملية التفكير ومنطقها، لتشكيل وعي مختلف يتماهى مع ركض الزمن إلى ما بعد، ويرفض أطروحة العودة إلى ما قبل، فالزمن منطقيا لا يعود إلى الوراء في حالة بقاء الكون على ما هي وضعيته الحالية، لكنه قد يتغير تحت ظروف معينة.
إذ عبْر القرون الثلاثة الأخيرة، وتحديدا منذ ظهور التغيير في معايير النظرة الفلسفية للأشياء، في القرن السابع عشر وما تلاه، قطع الإنسان على كل المستويات العلمية والفكرية والثقافية، ما لم يقطعه على مدى تاريخه البشري بالكامل، ولا أرى في هذه القرون الثلاثة إلا طلائع لرأس المستقبل البشري العظيم كمّا وكيفا، وحجم التغيير الهائل الذي سيحدث لتاريخ البشرية جمعاء، إذ لم ينطلق الإنسان بهذا القدر الهائل والمتسارع، ويؤثر في مشهد الصورة المكونة لعالمه الكلي بشكل كبير فعلا، إلا حين ظهر عصر تحطيم الأغلال بكل أشكالها، وإطلاقه العنان لجموح العقل وعنفوانه، تاركا خلف ظهره كثيرا من أطروحات الماورائيات والحكايات البعيدة عن أرض واقعه، فتهافتت أمام إرادته نظريات الخرافة الخارقة التي طالما رآها من نافذة المقدس والمحظور والممنوع، والتي جعلت منه تائها بين الفكرة التراجيدية الأسطورية ورومانسية الماورائيات «الميتافيزيقا»، وفضلهما عبر تاريخه على قصته الإنسانية الواقعية وحراكه ويومياته، ما أفضى إلى فشله مرارا في تجاوز هيبة الموروث، وسلطة المنقولات الظنية، دينية كانت أو غير دينية.
وهو المأزق الذي يحرضني للإسهام في استكشاف طبيعة عمل هذه الآلة العبقرية المسماة بـ«العقل»، وطريقة إنتاجه المعقدة للفكرة، وآلية التفكير وحيويتها، في وضعيته الحرة الخالية من المؤثرات، وتلك الواقعة تحت الضغوط المختلفة التي يرسل على ضوئها إنتاج الفكرة، وتقديم بعض التجارب والمطالعات في الحياة، وتقديم تجربة وحالة تفكير فردية لما قد يكون إسهاما لغد، ولا أدّعي كمالها.
لقد فرض تدفق مد الفكر الحداثي الذي لم يتوقف عبر الزمن، فلسفته على المجتمعات الإنسانية، من واقع تمرده واختلافه عن العادية والجمود، إذ عاود المنهج العقلي المدعوم بفكر الحداثة هذه المرة، انطلاقته مطلع الثمانينات الميلادية عربيا على وجه الخصوص والتحديد عند كثير من الباحثين، بعد طول مجافاة ورفض لأطروحات الحداثة بفعل عدة عوامل، كان أبرزها وأهمها دعوى الاعتقاد بتعارض مضامين هذا الفكر «الحداثة» وأهدافه التام مع تعاليم الدين ومضامينه، واعتبار الحداثة ردة عن المعتقد الديني، وهدما لثقافة وخصوصية الأمة ومقدراتها، غير أن هذه المواقف المعادية للحداثة تؤكد تأثيرها على الحضارات كلها دون استثناء، وأنها أضافت بُعدا فلسفيا جديدا لمعنى المواجهة، ومعركة الهدم والبناء، من خلال فرضها أدواتها وأسلوبها على الآخر المجابه لها، وجعلته لا يجد بُدا من الانخراط في فكرها على نحو ما، وهذه إحدى نقاط قوتها الذكية. فالمعارضون للحداثة منخرطون لا شعوريا في روحها وتطبيقاتها، وإن أنكروا ذلك. والمؤكد أننا أمام تحولات تاريخية، تستدعي ضرورة بلورة مواقفنا من الحداثة، لتصب فيما يزيد من وعينا بالمتغيرات، وجعلها مشروعا مجتمعيا حقيقيا، يخدم حركة نمو مجتمعاتنا العربية والإسلامية باتجاه إيجابي فاعل. لا أن نقف معارضين دون أن نعلم لماذا نفعل ذلك يقينا.
ولأن مشكلة السطحية في العقل العربي عميقة بعمق تاريخ تغييبه، إذ نجده يلتقط الهاجس الأول المرتبط بالعاطفة مباشرة، وليس الفكرة الأولى المرتبطة بالعقل والتحليل، وهو ما يجعل الفرد يعتقد أن الإضافة لا تكون إلا باجترار الماضويات باعتبارها مسلمات، وهو ما يجعله عاجزا عن السعي إلى فتح زاوية أخرى لرؤية الأشياء.
التعليقات