حسن أبو طالب

يبدو أن على العالم خاصة الغرب أن يتكيف بشكل أو بآخر مع العمليات الإرهابية غير التقليدية التى يصعب كشفها قبل وقوعها، وتستهدف قتل المدنيين بشكل يبدو عشوائيا، لكنه لا يخلو من رسائل ودلالات مهمة. إرهاب الدهس والطعن لم يعد فكرة خيالية، لقد أصبح واقعا نراه فى أكثر من موقع وبلد فى آن واحد، ولم يعد هناك ما يفرق بين بلد شرق أوسطى أفريقى أو عربى، أو بلد أوروبى أو روسيا او الولايات المتحدة. الكل بات مستهدف، والكل فى قلب المعاناة. مقولات سابقة مثل أن غياب الديمقراطية يؤدى بالضرورة إلى انتشار الإرهاب، وتنظيماته بدت منطقية لدى الأوروبيين والأمريكيين وفسروا بها انتشار الإرهاب وتنظيماته فى بلدان الشرق الأوسط لاسيما العربية لم تعد الآن مقنعة أو ذات قيمة، ولا تقدم أى تفسير منطقى لما شهدته كبريات المدن الأوروبية فى الأشهر الأخيرة من عمليات إرهابية قام بها شباب يحملون الجنسيات الأوروبية، ويفترض أنهم تشربوا الثقافة الأوروبية ذات النكهة الديمقراطية، ولكنهم فضلوا الانقلاب على تلك الثقافة ومحاربتها.

الغرب يدفع الآن ثمن مكابرته وعناده ورفضه فهم الظاهرة الإرهابية طوال العقود الثلاثة الماضية. لقد عاش الغرب فى وهم أن الجماعات الإرهابية التى تستخدم العنف الصريح والدموى ضد حكومات بلدانها هى جماعات سياسية ضاقت بها السبل فى بلدانها، وانها تستحق عناية الغرب ورعايته لها، بل ومساعدتها لكى تصل إلى السلطة فى بلدانها. ورغم أن تجربتى داعش والقاعدة، وهما التنظيمان الإرهابيان الأكبر فى الوقت الراهن، تقومان أساسا على فكرة رئيسية وهى أن الغرب كافر وعدو تاريخى ولا يمكن التعايش معه، ومحاربته باسم الجهاد واجب دينى يستوجب من كل المؤمنين بفكر التنظيمين المشاركة فى هذا الجهاد بأى طريقة وصولا الى إسقاطه، ومن ثم إقامة الدولة الاسلامية الجامعة بمسمى الخلافة.

لم يهتم الغرب كثيرا بالفهم الحقيقى للمنظومة الفكرية لمثل هذه التنظيمات الارهابية التى وظفت شعارات دينية ليسهل لها اختراق مجتمعاتها المحلية من جانب وجذب العناصر المسلمة المقيمة فى الغرب من جانب آخر، بل تصور أنها موجهة فقط لدول العالمين العربى الاسلامى، ولا تخرج عن مسعى الدعاية السوداء غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع. ومادامت هناك تحذيرات ومناشدات من رؤساء وملوك دول عربية ومسلمة بأن يعيد الغرب النظر فى هذا الموقف المتخاذل، وأن يتفهم أكثر وأكثر خطورة هذه التنظيمات والتهديدات الكبيرة المتضمنة فى بنية تفكيرها. ومع ذلك لم يتخذ الغرب الخطوات المناسبة حتى لحماية نفسه. وفى الوقت الذى تركز فيه دول عربية ومسلمة كثيرة، وفى مقدمتها مصر على محاربة التنظيمات الإرهابية بكل الوسائل الممكنة أمنيا وفكريا وتنمويا واستخباراتيا، من الصعب أن نجد يد العون الحقيقية والفعالة من الدول الغربية لدولنا العربية والمسلمة الأكثر اشتباكا ومواجهة مع الظاهرة الارهابية بتحولاتها الأكثر خطورة على مر التاريخ.

الإرهاب فى تعريفه البسيط هو استخدام العنف لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما ينطبق على كل الأفعال الإرهابية دون استثناء، أيا كان مكانها أو البلد الذى وقعت فيه. وهنا يبدو السؤال المهم حول المكاسب السياسية التى تحققها أعمال إرهابية من قبيل الدهس للأبرياء الذين يمارسون حياتهم العادية، أو من قبيل الطعن لمارة تصادف أنهم كانوا الأقرب للعنصر الإرهابى لحظة قيامه بفعلته الشنيعة. الملاحظ فى هذه النوعية من العمليات أنها أولا تعد مزيجا مما يعرف بالذئاب المنفردة، وهم الأفراد الإرهابيين الذين يقومون بعمل إرهابى إيمانا بفكر التنظيم الإرهابى دون الارتباط العضوى بالتنظيم. وثانيا أنها تستخدم أدوات عادية للغاية تستخدم فى حياتنا اليومية لجعلها أكثر يسرا وسهولة، كالطائرات والشاحنات وآلات القطع الحادة، ولكن الإرهابيون حولوها الى أدوات للقتل والخراب. وثالثا أنها عمليات لا تتطلب مهارات قتالية خاصة ولا تدريب مسبق، وكل ما تتطلبه هو اشخاص مغيبون وسيارة أو سكين أو تذكرة لركوب الطائرة، وإرادة لتنفيذ العمل الإرهابى دون تردد. ورابعا انها تستهدف التجمعات الانسانية فى مكان مفتوح، أو تصيد أفرادا عاديين يمشون فى الشارع لمهاجمتهم لغرض الإصابة أو القتل، وهو ما يعرف اصطلاحا بالأهداف السهلة. وخامسا أن نزعة الانتقام هى الأعلى، وبالتالى فهى لا تمثل إضافة بالنسبة للتنظيم الإرهابى إلا من زاوية بث الخوف فى نفوس أكبر عدد ممكن من البشر. وسادسا أن منع هذه العمليات الإرهابية من الاستحالة بمكان، ومهما تكن التدابير الأمنية المشددة وتبادل المعلومات مع دول صديقة أو حليفة، ستظل هناك فرصة أمام أحد الإرهابيين المجهولين للقيام بعملية دهس أو طعن.

هذه الخصائص الست للظاهرة الإرهابية الراهنة من حيث ابتداع عمليات عنف يصعب كشفها ومنعها قبل حدوثها، سوف تشكل حركة التنظيمات الإرهابية فى المرحلة المقبلة مدفوعة برغبة عارمة فى الانتقام من كل من ساهم فى إجهاض الدولة الإسلامية المسخ فى كل من العراق وسوريا، والمرجح أن هذه النوعية من العمليات سوف تركز على المجتمعات الأوروبية وروسيا والولايات المتحدة بدرجة أكبر، وتذكير الجميع أن يد التنظيم الإرهابى رغم الهزائم الأخيرة ما زالت قادرة على توجيه الضربات المؤلمة، وأن التنظيم ما زال قائما وتأثيره على الاتباع لم ينته أبدا.

الانتشار الأفقى للعمليات الإرهابية بطول العالم وعرضه يتطلب فكرا جديدا وتعاونا دوليا على أعلى مستوى، وحتى الآن ورغم تعرض أكثر من مدينة أوروبية كبيرة مثل لندن وبرلين وباريس وبرشلونة وغيرهم، فإن الحديث الأوروبى يقتصر على محاولة كشف أوجه القصور الأمنية التى أدت إلى نجاح أفراد إرهابيين فى توجيه ضربات مؤلمة للعديد من الأبرياء ولهيبة البلد ذاته، وهو موقف يكشف عجز الغرب عن استيعاب مغزى هذه العمليات، وبالتالى العجز عن صياغة استراتيجية دولية جديدة تستهدف التعاون الفعال مع أكبر عدد ممكن من الدول والمؤسسات، وبحيث تشمل مسارات فكرية وأمنية وسياسية فى آن واحد. إن ظاهرة مثل القاعدة أو داعش تستمر رغم الضربات القاسية والموجعة التى وجهت اليها طوال عقدين، بل وتعمل فى داخل أوروبا نفسها، فهذا يعنى أن المواجهة ستأخذ وقتا طويلا، وسيقع ضحايا كثر، إلى أن يفيق الغرب من غفلته.