سعود بن عبد الله العماري
من منطلق كوني محامياً تمرّست في ساحات القانون الدولي والمحاكم الدولية، وتشرفت بتمثيل بلادي في أكثر من محفلٍ وقضية، تكللت جميعها، ولله الحمد والمنة، بالنجاح والفوز المؤزّر للمملكة على خصومها، رأيت أن أكتب هذه المقالة للتعليق على أحدث تُرّهات القيادة القطرية، التي أصبحتُ أُسميها؛ أم الشكاوى!.
فمن ضمن الشكاوى التي باتت القيادة القطرية تخبط بها خبطاً عشواء، أو تقذف بها يديها يمنة ويسرة، كالغريق الذي يبحث عن قشة تُنقذه مما هو فيه، إثر قيام الدول المكافحة للإرهاب؛ المملكة العربية السعودية، ومملكة البحرين، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وجمهورية مصر العربية، بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها، وقيام دولٍ أخرى إما بقطع العلاقات، كجمهورية تشاد، أو بتقليص التمثيل الدبلوماسي مع قطر، بسبب تبني قيادتها سياسات أدّت إلى تهديد السلم والأمن في الخليج العربي، والمنطقة العربية برمتها بل وأنحاء أُخرى من العالم، من خلال تدخلها في الشؤون الداخلية لبعض الدول، ودعم تلك القيادة المتهورة الخلايا والمنظمات الإرهابية التي تسعى إلى تقويض منظومة الأمن العربي والعالمي، من ضمن شكاوى القيادة القطرية المضحكة المبكية، أنها تقدمت بشكوى واسعة النطاق إلى منظمة التجارة العالمية، في 31 يوليو (تموز) 2017، ضد دول الخليج العربي الثلاث المشار إليها آنفاً، ولم تتضمن هذه الشكوى مصر، على الرغم من أن مصر قامت، هي الأخرى، بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع دولة قطر.
وقد زعمت القيادة القطرية في شكواها، المرفوعة إلى منظمة التجارية العالمية، أن قطر تعرضت إلى ضغوط وممارسات قسرية تهدف إلى حصارها وعزلها اقتصاديا، والوقوف كعقبة أمام حقوقها في حرية تجارة السلع والخدمات وغيرها من الحقوق الأخرى المكفولة لها على حد زعمها، وأوردت، ضمن الافتراءات التي انطوت عليها شكواها، أن الممارسات التي اتخذت ضدها تتضمن حظر التجارة عبر موانئها، والحظر على سفر المواطنين القطريين، وحجب مواقع على الإنترنت، وبعض الخدمات الرقمية، إلى جانب إغلاق الحدود البحرية والأجواء وحظر رحلات الطيران القطرية وغيرها!
ولست هنا في وارد تفنيد هذه الافتراءات، فالقارئ الكريم، يُدرك، بفطنته ووعيه، أن ادعاءات القيادة القطرية ليست إلا من باب قول القائل: «ضربني وبكى، وسبقني فاشتكى»، ولكنني أرغب، في هذه المقالة، في أن أُلقي الضوء على هذه الشكوى، التي أشرت إليها، وعلى الإجراءات التي اتخذتها الدول المكافحة للإرهاب من وجهة نظر القانون الدولي، والمنطق الذي بُني عليه، وفي هذا ألفت النظر إلى نقطتين في غاية الأهمية:
أولاهما: أنه يترتب على الشكوى القطرية، المقدمة إلى جهاز تسوية المنازعات بمنظمة التجارة العالمية، إجراء قانوني يتّبعه هذا الجهاز عند التعامل مع هذه النوعية من المنازعات، التي تُصنّف ضمن المنازعات التجارية، وهذا الإجراء هو ضرورة البدء، أولاً، بإجراء مشاورات بين الطرف الشاكي (قطر) والطرف الآخر المشكو ضده (الدول الثلاث).
ويُعرف هذا باللجوء إلى الأساليب الودية، التي جعلها جهاز تسوية المنازعات ذات أولوية قبل اللجوء إلى الطرق القضائية. ويعد هذا الإجراء إجراءً إلزامياً، وليس اختيارياً، لا يمكن تجاوزه أو تخطيه بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الدول الأعضاء ملزمة المرور، أولاً، بمرحلة المشاورات «consultation» بموجب نصوص مذكرة التفاهم الخاصة بتسوية المنازعات.
وهذه المشاورات هي عبارة عن وسيلة يتم، بواسطتها، تبادل وجهات النظر بين أطراف النزاع بغرض التوصل إلى اتفاق يؤدي إلى تسوية النزاع المزعوم بينهم. وتُعد المشاورات وسيلة سريعة وفاعلة يمكن أن تحقق نتائج ملموسة، لعل أهمها تسوية النزاع ودياً، وقد أحاطت المنظمة هذه الوسيلة بسياج منيع من الضمانات والقيود والضوابط، حتى تؤتي ثمارها، وتقوي من دورها وفاعليتها في تسوية المنازعات أو الخلافات التي تثار بين طرفين أو أكثر.
كذلك، يُمكن اللجوء إلى المساعي الحميدة أو التوفيق أو الوساطة، بهدف التوصل إلى حلول إيجابية ناجعة تكون مقبولة، قدر الإمكان، لدى أطراف النزاع، وذلك في حال فشل المشاورات في التوصل إلى نتائج إيجابية. وقد نصت، على هذه الوسائل، المادة الخامسة من مذكرة التفاهم الخاصة بتسوية المنازعات، وأحاطتها، أيضاً، بمجموعة من الضوابط والضمانات التي تجب مراعاتها والتزامها عند اللجوء إلى أي من هذه الوسائل.
وقد حدد النظام أجلاً زمنياً للمرحلة الأولية (المشاورات)، تطبيقاً لمبدأ التسوية الفورية للنزاع، وهذا الأجل هو عبارة عن مدة زمنية أقصاها 60 يوماً من تاريخ تقديم الشكوى. فإذا انقضت هذه المدة ولم تتوصل المشاورات إلى حل مرضٍ أو تسوية ملائمة بين الطرفين، فإنه يتم الانتقال، بعد ذلك، إلى إجراءات أخرى تُعرف بإجراءات التقاضي، حيث يتم تشكيل لجنة قضائية لنظر النزاع القائم بين الخصوم والفصل فيه.
وأود أن أُشير هنا إلى أن موقف القيادة القطرية، منذ بدء الخلاف، لا يوحي أبداً بأنهم على استعداد، أو أن لديهم النيّة، للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أشقائهم، إذ لو كان هذا توجههم لحرصوا على التفاوض مع أشقائهم حول القضايا الأساس التي أطلقت شرارة النزاع معهم.
كما أود أن أشير هنا، أيضاً، إلى أن المدة الزمنية المذكورة آنفاً، والمحددة بستين يوماً، ترتبط فقط بالأحوال العادية ولا تنطبق على الأحوال المستعجلة، حيث إن للأخيرة أحكاماً خاصة تتعلق بالمدة الزمنية المرتبطة بها، ولا أجد داعياً لتناول هذه الأحكام لأنها تخرج عن إطار موضوعنا ولا تنطبق عليه.
أما النقطة الثانية: فتتعلق بمدى إمكان قبول منظمة التجارة العالمية للمزاعم التي تقدمت بها القيادة القطرية في شكواها ضد الدول الثلاث، في حال الوصول إلى مرحلة التقاضي، بعد انقضاء الستين يوماً دون حدوث أي تسوية.
وهنا، لا بد لنا من وقفة مع حُكم القانون الدولي عموماً، وقانون تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، على وجه الخصوص، على المواقف التي اتخذتها الدول الثلاث (لكونها الطرف المُدعى عليه) ومصر تجاه قطر، لنسأل سؤالاً وجيهاً ومنطقياً مؤدّاه هو: هل هذه المواقف تتعارض مع أنظمة منظمة التجارة العالمية، إلى الحد الذي يُتيح لقطر الحق في الادعاء على الدول الثلاث بما زعمته؟ أم أن هذه المواقف تتفق وتتسق مع اتفاقيات وأنظمة منظمة التجارة، وتتماشى مع قواعدها، وبالتالي لا تُعد خروجاً على أي منها وينتفي حق قطر وقيادتها فيما ادعته؟
والجواب عن هذا السؤال الجوهري هو أن المواقف والتصرفات التي اتخذتها الدول الثلاث (ومصر) تجاه قطر هي مواقف وتصرفات سليمة وصحيحة تماماً من ناحية قانونية، ولا تُمثل أي خروجٍ على أنظمة منظمة التجارة العالمية أو خروج على الشرعية الدولية أو انتهاك لها، بل هي مواقف أجازها القانون الدولي وأنظمة منظمة التجارة العالمية صراحة وبكل وضوح.
وتأكيداً لذلك، نشير إلى الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (الغات) GATT التي نصّت، في المادة الحادية والعشرين منها، على أنه:
«لا يوجد في هذه الاتفاقية ما يمكن تفسيره بأنه:
ب - يمنع أي من البلدان الأعضاء من اتخاذ إجراءات تراها ضرورية لحماية مصالحها الأساس الخاصة بالأمن: ومنها ما يتعلق بالمواد القابلة للانشطار أو المواد المشتقة منها، وما يتعلق بتجارة الأسلحة والذخائر وأدوات الحرب، وكذلك بالنسبة إلى تلك الحركة الخاصة بالبضائع والمواد الأخرى المنقولة بطريق مباشر أو غير مباشر لغرض الإمدادات الحربية...
ج - يمنع أي طرف متعاقد من اتخاذ أي إجراء تنفيذاً لالتزاماته في ظل ميثاق هيئة الأمم المتحدة لحماية السلام والأمن الدولي».
ويتضح من هذه المادة، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها تجيز للدول الأعضاء اتخاذ ما تراه مناسباً بما يكفل حماية أمنها القومي، إذ لا يمكن أن يمنع أي عضو من اللجوء إلى أي إجراء ضروري لحماية مصالحه الأمنية متى ما لاح خطرٌ على أمنه.
وتعزيزاً لهذا التوجه، أكدت الاتفاقية العامة بشأن التجارة في الخدمات (الغاتس) GATS، التي تنظم الخدمات المهنية والخدمات الاجتماعية والتجارة والمال والنقل والاتصالات وغيرها، على المبادئ نفسها، إذ لا تمنع المادة الرابعة عشرة منها أي عضو من اتخاذ بعض الإجراءات الضرورية واللازمة لحماية مصالحه الأمنية، وذلك بموجب الاستثناءات الأمنية.
وقد جاءت هاتان المادتان، في كلتا الاتفاقيتين، تحت بند الاستثناءات الخاصة بالأمن، وهو ما يعني أن مواقف وتصرفات الدول الثلاث، ومقاطعتها لقطر، لا تنتهك أو تخرق أنظمة واتفاقات منظمة التجارة الدولية، ولا تمثل خروجاً على أحكامها، إذ إن هذه المواقف والتصرفات توصف بأنها إجراءات وقائية وليست إجراءات عقابية، وهي تهدف إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار من أي تهديد إرهابي يأتي من داخل قطر أو من أي من الخلايا والمنظمات الإرهابية التي تدعمها وتمولها.
ولهذا، فقد يترتب على مضي القيادة القطرية قدماً في إجراءات التقاضي، بعد انقضاء مدة الستين يوماً، رفض ورد دعواها ومزاعمها ضد أي دولة من الدول الثلاث، لأن قطر لا تستند في دعواها إلى أسس ودعائم قانونية سليمة، بل على حجج واهية ومزاعم باطلة لا أساس لها من الصحة.
وبالتالي، فإن من المتوقع أن ترفض منظمة التجارة العالمية هذه الشكوى، كما رفضت، قبل ذلك، منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو) الشكوى القطرية، ضد الدول الأربع، وهي دول الخليج الثلاث بالإضافة إلى مصر، بشأن قرار الدول، غلق الأجواء الجوية في وجه الطائرات المملوكة أو المسجلة في قطر.
فقد تقدمت قطر بشكوى أمام منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو)، مدعية بأن إجراء هذه الدول يعد تعسفاً في حقها، وطلبت من المنظمة إصدار قرار يرفع المنع على الطائرات القطرية، إلا أن طلبها قوبل بالرفض، نظراً لأن المنظمة عدّت ما قامت به الدول الأربع أمراً سيأديا لا يمكن للمنظمة التدخل فيه، بل إن المنظمة قدّرت للدول الأربع تعاونها معها في تنسيق مساراتٍ جوية للطائرات القطرية في حال الطوارئ.
وهكذا نرى أن القيادة القطرية تتخبط في تصرفاتها ومواقفها، وتحاول اللجوء إلى القضاء وإلى المنظمات الدولية لحل الأزمة، التي جلبتها لنفسها وبلادها جرّاء تصرفاتها الرعناء وغير الأخلاقية، ولكن دون نتيجة؛ بل إن ما يحصل هو العكس، إذ انكشفت الحقائق وظهرت الأدلة الدامغة، ضد قيادة قطر ومسؤوليها، مؤكدة ارتباطهم بالإرهابيين والأعمال الإرهابية ودعمها.
ولم يقتصر هذا على دول الخليج فقط، بل تجاوزها إلى خارج حدود الإقليم، إذ من المتوقع أن يقوم ذوو ضحايا حادثة مدينة برشلونة الأخيرة بمقاضاة قطر، بعد أن كُشف النقاب عن أن قائد تلك العملية مرتبطٌ ومدعومٌ من قطر. والوضع نفسه مع ذوي ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، بعد ثبوت ارتباط المسؤولين القطريين بذلك الهجوم الإرهابي، ارتباطاً مباشرا، من خلال دعمهم للعقل المدبر للعملية؛ خالد شيخ محمد، وإيوائه في قطر وتيسير هروبه خارجها؛ رغم طلب السلطات الأميركية تسليمه لها. وما هذا، مع الأسف الشديد، إلا غيضٌ من فيض؛ فهناك الكثير من المصريين والليبيين والسوريين والتونسيين وغيرهم يعتزمون رفع دعاوى ضد قطر وقيادتها.
وقبل أن أختم مقالتي هذه، أود أن أذكر القيادة القطرية بأن الفرصة ما زالت متاحة، من خلال قبول قطر والتزامها بكل المطالب المشروعة التي قدمتها السعودية وشقيقاتها الدول المكافحة للإرهاب، ولكن، من الواضح، أن هذه الفرصة بدأت تتقلص جراء إصرار القيادة القطرية على مواقفها الخارجة على القانون الدولي والأعراف الإنسانية ومبادئ الشريعة الإسلامية.
فهل تتعظ قيادة قطر بكل ما رأت وسمعت من أشقائها ومن دولٍ عدة أُخرى. وهل تُدرك أن تغريدها خارج السرب سيعود وبالاً عليها وعلى شعبها. وأن تحالُفها مع أطرافٍ أقلُ ما يُقال عنها أنها مُصنفة ضمن الدول المارقة، سيجعلها مثالاً حياً لقول الشاعر العربي الكبير المتنبي:
ومن يجعل الضرغامَ بازاً لصيده
تصيّده الضرغامُ فيما تصيدَا
وأود هنا أن أهمس في أُذن القيادة القطرية مُذكِّراً إياهم بما حدث في قضية جزر (حوار)، عندما وافقت مملكة البحرين الشقيقة على الوساطة وقبلت التسوية مع قطر، إلا أن الأخيرة ركبت رأسها وأصرت على اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، التي اكتشفت قيام القيادة القطرية بتزوير أدلة ووثائق تتعلق بالقضية، وحينها انقلب السحر على الساحر، وحكمت المحكمة بالحق لصالح مملكة البحرين.
أؤكد لكم أن الأمور اختلفت كثيراً اليوم؛ ولن ينفعكم اللجوء إلى مثل هؤلاء ولا إلى مثل هذه الطرق الملتوية، لأن الحقائق انكشفت وظهرت الأدلة والبراهين، لهذا فإننا نأمل أن تعودوا إلى صوابكم، وأن تعود قطر وشعبها الأصيل العزيز وعقلاؤها إلى مكانهم ومكانتهم المعهودة بين أشقائهم الخليجيين والعرب وأصدقائهم في كل أنحاء العالم، وإلا فقد أعذر من أنذر، وكُل غدٍ لناظره قريب.
التعليقات