&وحيد عبد المجيد

&لم يُحسم الجدل المستمر منذ عقود حول أثر كل من الروابط الشخصية، والعوامل الموضوعية، في العلاقات بين البشر. وما زال السؤال الذي يدور حوله هذا الجدل مطروحاً، فهل وجود انسجام أو تناغم بين شخصين هو الأكثر تأثيراً في العلاقة بينهما، أم ظروف كل منهما والأوضاع التي يعيش فيها؟

هناك من يرى أن ما يُطلق عليه الكيمياء الشخصية يلعب دوراً أكبر، ويمكن أن يساعد في حل مشاكل موضوعية أو تجاوزها. وهناك من يعتقد أن الظروف الموضوعية أكثر تأثيراً. وثمة فريق ثالث يفضل قياس أثر العاملين الشخصي والموضوعي في كل حالة على حدة، ويحذر من خطأ التعميم. حالة العلاقات الأميركية – الروسية اليوم تُضعف الاجتهاد الأول الذي يُغّلب الكيمياء الشخصية على العوامل الموضوعية، وتُدِّعم الاجتهادين الثاني والثالث كلاً بمقدار. توجد كيمياء شخصية بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين. بدأت ملامحها في الظهور عندما التقيا للمرة الأولى على هامش قمة مجموعة الدول العشرين في هامبورج بألمانيا في يوليو 2017. وظهرت هذه الكيمياء أكثر وضوحاً في قمة هلسنكي التي جمعتهما الشهر الماضي.

يجد كل منهما في الآخر ما يثير إعجابه. ولذلك، فعندما يتحدثان عن رغبتهما في تحسين العلاقات بين بلديهما، فهما يعبران عما يتمنيانه بالفعل. كلام كل منهما عن التقارب الذي يرغبانه بين الولايات المتحدة وروسيا ليس مجرد مجاملات دبلوماسية.

غير أن الظروف الموضوعية التي تخلق فجوة كبيرة بين الدولتين، وتؤدي إلى تباعدهما بخلاف ما يرغبه رئيس كل منهما، تظل أقوى من الكيمياء الشخصية. ولذلك لم يكن ممكناً أن تحقق قمة هلسنكي تقدماً يُذكر في حل الخلافات بين الدولتين، بخلاف التوقعات المتفائلة، وغير الواقعية التي ذهبت إلى إمكان عقد صفقة بشأن سوريا.

ولا يعود تواضع نتائج هذه القمة إلى استحالة حل الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا، أو انعدام فرص التوصل إلى تسويات لبعضها على الأقل. حل هذه الخلافات ممكن بدرجات تختلف من أحدها إلى الآخر. لكن العقدة الأساسية تكمن في العوامل الموضوعية التي تُحدَّد المنهجين الأميركي والروسي في التفاوض حولها، والبحث عن حلول لها.

لا يتفاوض ترامب وبوتين بوصفهما شخصين يجمعهما انسجام على المستوى الشخصي، بل بصفتهما رئيسي دولتين يعمل كل منهما وفق مُحددات لا يختارها، لأنها تتعلق بمصالح الدولة التي يقودها، ونوع النظام السياسي فيها، والأدوار التي تلعبها مؤسساتها وأجهزتها في عملية صنع القرار. ورغم أن لدى بوتين حرية حركة أوسع من ترامب في هذا المجال، فليس في إمكانه أن يعيد صوغ مصالح روسيا منفرداً، أو أن يلغي أدوار مؤسسات سياسية وعسكرية وأمنية حتى إذا كان القرار النهائي بين يديه.

ولذلك فما أن يبدأ أي حوار بين ترامب وبوتين حتى يظهر التعارض بين منهجيهما في حل الخلافات الأميركية – الروسية. يريد بوتين حلاً شاملاً لهذه الخلافات كلها في صفقة متكاملة، وفي صورة حزمة اتفاقات تُعلن في الوقت نفسه. أما ترامب فيرغب في حل ما يتيسر من هذه الخلافات، وعدم الربط بينها، أي التعامل مع كل منها على حدة.

وليس هذا المنهج أو ذاك اختياراً شخصياً. بوتين يريد صفقة شاملة لأن هذه الصيغة هي التي تحقق مصلحة روسيا، وتتيح لها فرصة للمساومة على خلافات عدة في الوقت نفسه لتحقيق مكاسب أكبر وتقديم تنازلات أقل. تريد روسيا حلاً شاملاً عبر حزمة واحدة تشمل الأزمتين السورية والأوكرانية، وملف التدخل في الانتخابات الأميركية، وسباق التسلح.

ولا بديل عن هذا المنهج، بالنسبة إلى روسيا، لتحقيق تغيير جوهري في طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة. وهذه هي الجائزة الكبرى التي تسعى إليها.

أما رغبة ترامب في التعامل مع كل خلاف على حدة، فهي ترتبط بعدم قدرته على التفاوض على صفقة شاملة. فليس في إمكانه التفاوض، أصلاً، على ملف الادعاء بتدخل روسي في الانتخابات الروسية، لأنه موضع تحقيق قضائي في الولايات المتحدة.

كما أن الموقف الحازم الذي تتخذه إدارة ترامب تجاه إيران، يفرض إعطاء أولوية لحل الخلاف على الأزمة السورية سعياً إلى إضعاف نفوذ طهران. لكن موسكو ترى أن أقصى تنازل يمكن أن تقدمه واشنطن في مفاوضات على الأزمة السورية وحدها، لا يرقى إلى مستوى تغيير جوهري في السياسة الروسية تجاه إيران.

وهكذا يتعذر أن تساعد الكيمياء الشخصية التي تجمع ترامب وبوتين في التقريب بين منهجيهما المرتبطين بمحددات موضوعية تفرقهما.