علي حسن الفواز

ما أفرزته احداث مدينة البصرة من تداعيات سياسية وأمنية واجتماعية كشفت عن حجم التحديات التي تواجهها(الدولة العراقية الجديدة) وعن طبيعة المشكلات التي تُهدد وجودها، وتؤثّر في معطيات تحوّلها السياسي المدني والديمقراطي، فهذه الأحداث فضحت حجم الرثاثة التي تعيشها المدن العراقية، مقابل حجم الأزمات التي تتخبط فيها، والتي يمكنها أنْ تكون دافعا للاحتجاج الشعبي، والى صراعات قد يشوبها العنف، لاسيما بين الجماعات السياسية، فهذه الأزمات كشفت عن تضخّم هائل لظاهرة الفساد الاداري والمالي، وحتى التخطيطي، والذي بات واضحا تفشّي مظاهره في واقع هذه المدن، تلك التي تعاني من الاهمال، ومن أيِّ غياب حقيقي& للبرامج والمشاريع الخدمية والتعليمية والصحية والبيئية، وحتى من الخطط الستراتيجية التي من شأنها أن تشكل علامة مهمة في اجراءات التنمية المستدامة..

اشتباك احداث البصرة السياسي والامني والاقتصادي، مع العامل الاقليمي والدولي، هو أخطر تداعيات هذه الأزمة، وعلى دفع بعض التظاهرات الى بعض السلوك العنفي، فضلا عن& انعكاسه بشكلٍ أو بآخر على تعقيد طبيعة& التحالفات السياسية، وعلى آفاق تشكيل الحكومة القادمة، فبقدر ما كانت هذه تظاهرات البصريين تعبيرا عن مطالب واستحقاقات واقعية، إلّا أن& قيام بعض المتظاهرين باللجوء الى العنف والتجاوز على المؤسسات العامة والى حرق المقرات الحزبية، والقنصلية الايرانية هو ما أثار الجدل حول علاقة هذا العنف بالمطالب، لاسيما& بعد نزوع بعضهم للاقتراب من آبار النفط وقطع الطرق بما فيها الطرق الى الميناء..

إنّ تشتيت الاجواء السياسية، وايجاد استقطابات جديدة كان سببا في خلط&& الاوراق، وفي التحريض على استدارج القوى السياسية الى صراع داخلي، والذي سيكون سببا لمزيدٍ من العنف، والى ايجاد المبررات للتدخل الخارجي، وبالتالي وضع الجميع أمام خيارات محدودة، أو حتى اللجوء الى ما يُسمى ب(حكومة طوارىء) تكون خاضعة لاجندات سياسية واقليمية، تضيع معها(سيادة) الدولة، وفرص البحث عن حلول عراقية للمشاكل العميقة التي تعاني منها العملية السياسية..

الوضوح والواقعية السياسية.

مواجهة تداعيات الأزمة، والبحث عن حلول واقعية تتطلب وضوحا وشفافية في تشخيصها، وفي الكشف عن اسبابها، والمسؤولين عنها، لاسيما الجهات المسوؤلة عن استشراء ظاهرة الفساد والعشوائية والهدر، وهي أسباب يشترك فيها الجميع، وتحتاج الى اجراءات عملياتية، والى قرارات حاسمة، والى&& برامج عمل& تتجاوز كل الاليات السابقة، على مستوى تحديد الأطر العامة، وتحديد الاولويات، وعلى مستوى انضاج برامج المتابعة والرقابة، وعلى وفق سياقات عمل قانونية ومهنية، وحقيقية، وقابلة للتنفيذ، وضمن أطرٍ زمنية معروفة، بما فيها الآليات التي تتعلق بالصلاحيات، و بالستراتيجيات التي تخص تأهيل المدن العراقية، في الجنوب والوسط، فضلا عن المدن التي تعرضت للتخريب الداعشي..

نجاح الحكومة القادمة في معالجة ملفات الخدمات والامن والاقتصاد والعلاقات الخارجية سيكون هو الافق الواضح لصياغة عقد سياسي جديد، ولصناعة أسس الدولة القوية دستوريا وسياسيا، إذ إنّ انهيار(البنى التحية) وضعف البناء المؤسسي سيكون سببا حقيقيا في اضعاف الدولة، وفي تحويلها الى(دولة فاشلة) وغير قادرة على تأمين حماية شعبها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فضلا عن تأثيرها في تبرير اسباب التدخل الخارجي، والاجندات الدولية، وهو ماحدث بالفعل، إذ حاولت جهات عديدة استثمار احداث البصرة للتأثير على المسار السياسي، وعلى تغذية الصراعات الداخلية، مقابل الحديث المُلتبس عن حكومة طوارىء، وهو مايعني& وضع الجميع أمام خيارات لا ديمقراطية، ومحدودة جدا، والتي ستكون سببا في تفاقم الوضع المأزوم أمنيا وسياسيا واقتصاديا..

الدولة والمشروع الوطني

صياغة المشروع الواضح يعني ايجاد خارطة طريقة واضحة لترصين بنية الدولة الوطنية، والبرنامج& الحكومي القادم، ففي ظل هيمنة العشوائيات السياسية والاقتصادية يفقد أيّ مشروع واقعيته واهميته وجدواه، إذ سيكون عرضة للفساد والضياع، مقابل تضخيم قصدي للازمات، ولتعطيل الارادة الوطنية او بعثرتها، وماهذا ما يتطلب جهودا استثنائية من البرلمان في دورته الجديدة، على مستوى اقرار القوانين والقرارات اللازمة لدعم برامج التنمية الوطنية، وعلى مستوى مراقبتها وضمن سقوفها الزمنية الواضحة، فضلا عن ما هو مفترض من قبل(الكابينة) الحكومية الجديدة، على مستوى الاختيار المهني للوزراء والوكلاء والمديرين العامين، وعلى مستوى وضع مشروع وطني واضح وبرنامج حكومي واقعي، وله صلة مباشرة بالمشكلات التي يعاني منها العراقيون في عديد مدنهم، فضلا عن الاهمية الكبرى لصياغة سياسة خارجية ناضجة وواضحة، وتقوم على اسس مهنية تبغي حماية سيادة العراق وعدم التدخل في شؤونه الداخلية من جانب، وحماية ثرواته الوطنية، والحصول على حقوقه بما فيها الحقوق المائية، ووضح حدٍ للتدخلات الخارجية مهما كان مصدرها من جانب آخر، ليس لتأكيد فكرة الحيادية حسب، بل لتأكيد اهمية العراق في الخارطة الجيوسياسية، ولبناء الدولة القوية التي يحترمها الجميع...