تيريز رافائيل

قفز الجنيه الإسترليني، المحاصر بسبب مفاوضات «بريكست»، من فرط السعادة بالأمس عندما صرح المفاوض التجاري للاتحاد الأوروبي ميشيل بارنييه أمام حشد من الجماهير في جمهورية سلوفينيا، بأن اتفاق الطلاق النهائي ما بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي قد صار أمراً واقعياً في غضون ستة إلى ثمانية أسابيع. غير أن هذا لا يعني أننا يمكننا جميعاً تنفس الصعداء بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

ولقد اكتمل اتفاق الطلاق - الذي يحدد المبلغ الذي سوف تسدده المملكة المتحدة إلى خزائن الاتحاد الأوروبي، وحقوق المواطنين، والفترة الانتقالية، وغير ذلك من الشؤون - بنسبة بلغت 80 في المائة حتى الآن. وليس هناك من سبب وجيه يمنع استكمال الاتفاق في غضون ستة أسابيع، أو ربما أربعة أسابيع، من الآن. وفي واقع الأمر، فإن الأطراف المعنية، والمواقف الأساسية، والخطوط الحمراء لا تزال كما هي من دون تغيير يُذكر منذ ستة أشهر. وأي اتفاق، وفقاً لذلك، سوف يعتمد بالأساس على قدر معين من التغاضي فيما يتعلق بالقضايا والمسائل الأخرى العالقة.

ويمكن التغاضي عن أي قضية في أي وقت، عندما يتعلق الأمر بالنفعية السياسية. وبالنسبة للسيد بارنييه، فمن السهل أن يرى كيف أن إبرام الاتفاق عاجلاً هو أكثر جدوى ومعقولية من إبرامه آجلاً. فهناك الكثير من الأموال على الطاولة الآن - تقدر بحوالي 39 مليار جنيه إسترليني (أي 50.8 مليار دولار تقريباً) - موجهة لخزائن الاتحاد الأوروبي وميزانيته المحدودة. وكلما طال أمد المفاوضات من دون التوصل إلى اتفاق، زادت حدة الانقسامات داخل الجبهة الأوروبية الموحدة. كما أن المفاوضات تستهلك الوقت والجهد، وتشتت الانتباه بعيداً عن مناقشات الإصلاح الخاصة بالاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تزداد فيه مخاطر وتوترات الأسواق وصناعة المزيد من الفوضى من جانب الساسة الأوروبيين المتطرفين في كل من إيطاليا وفرنسا والمجر وغيرها من الأماكن.

ومن وجهة نظر رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، قد يبدو جدول السيد بارنييه الزمني متعجلاً بعض الشيء. وهو من الأفضل بالنسبة لها إذا ما ظهر المفاوضون الأوروبيون غير المرتبين في حالة من الذهول بسبب جلسة المفاوضات التي امتدت الليل بطوله بهدف إعاقة الخروج البريطاني بحلول نوفمبر، أو ربما ديسمبر (كانون الأول) المقبل. وهو من الأفضل بالنسبة إليها كذلك أن همهموا في حماس متردد بشأن صلاحيات التفاوض الاستثنائية التي يحظى بها قادة المملكة المتحدة، والواضح للغاية في عنادها المثير للاستغراب. كان الأمر صعباً، كما يقولون، ولقد بلغوا أقصى ما يمكنهم، ولم يعد باستطاعتهم منحها المزيد حتى وإن أرادوا.

ويمكن للسيدة ماي أن تنظر بصلف إلى معارضي «بريكست»، وتسألهم ما الذي فعلوه لأجل بريطانيا في الآونة الأخيرة. وربما قد تمنح البرلمان البريطاني لحظة من لحظات الحقيقة: إما قبول الاتفاق غير الكامل، وهو نتيجة الألاعيب السياسية الخبيثة تماماً كما تجري الأمور، أو القذف بالمملكة المتحدة من أعلى جرف عدم اليقين والمجازفة بالسماح لحزب العمال المهلهل بتسوية الفوضى الراهنة، إن تمكن من الفوز في الانتخابات الجديدة.

وإن تقدم الاتحاد الأوروبي ببعض التنازلات - على سبيل المثال، السماح بالربط بين الإعلان السياسي بشأن العلاقات التجارية المستقبلية وبين اتفاق الانسحاب من الاتحاد، بحيث تعتمد المدفوعات المستحقة للاتحاد الأوروبي على الوصول الموعود به إلى الأسواق - فمن الممكن أن يمنح السيد بارنييه، النواب البريطانيين، المبرر المطلوب للموافقة النهائية.

وما من اتفاق تتوصل إليه السيدة ماي سوف يرضي أولئك المتشددين لنزعة الانفصال التام عن أوروبا. وإذا كان وصف وزير خارجية بريطانيا الأسبق بوريس جونسون لاستراتيجية «بريكست» لدى تيريزا ماي بأنها مثل الهجوم الانتحاري المنفرد لم يستمر طويلاً، فهو مجرد لمحة من لمحات السم الذي سوف يتفشى على نطاق واسع في الاتفاق الفعلي حال إبرامه. فكلما طال أمد الانتظار لدى السيدة ماي حتى الكشف عن الاتفاق المبرم، قل الوقت المتاح للسيد جونسون وأنصار «بريكست» المتشددين في معارضته ومقاومته.

ولكن إن لم تكن السيدة ماي ترغب في الاتفاق المبكر، الذي من شأنه أن يتلاشى أثره مع تصاعد المعارضة ضده - وهذا بالضبط ما حدث في خطة الشيكات في يوليو (تموز) الماضي - ينبغي عليها أن تظهر قدراً معتبراً من التقدم. وتساهم تصريحات السيد بارنييه التوافقية الأخير في إثبات ضيق الفجوة ما بين مواقف المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة.
ومع ذلك، فإن مسألة التوقيت متوازنة بشكل دقيق. حتى النواب المعتدلون في البرلمان البريطاني سوف يعارضون القفز على القرار النهائي من دون منحهم الوقت المناسب للنظر فيه، تماماً كما حذرت هيلاري بن النائبة في حزب العمال في يونيو (حزيران) الماضي.

وما من شك أن أي اقتراح بأن الاتفاق في متناول الأيدي سوف يبعث بروح السرور في الأسواق، ولكن بالنسبة للشركات ودافعي الضرائب، فإن الإجراءات رفيعة المستوى تأتي بتكاليف باهظة. وكلما طالت الفترة الزمنية من دون اتجاه واضح للمسير، زادت الأموال التي تنفقها الشركات على التحوط من عدم إبرام الاتفاق على الإطلاق، وزادت الإشعارات الفنية التي يتعين على الآلاف من الموظفين الحكوميين، المكلفين بالاستعداد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إعدادها وإصدارها في وقت من الأوقات.
تماماً مثل الزوجين الشغوفين اللذين قاما بكل تهور بإنفاق مدخرات الحياة لتجديد ديكورات الطابق العلوي من المنزل الذي ينهار فوق رأسيهما لاحقاً، فإن مشروع «بريكست» قد بلغ وتجاوز المدى فيما يتعلق بميزانية البلاد، وسوف تكون معجزة حقيقية إن لم يفت أوان إبرام الاتفاق بعد كل ذلك الكد والجهد. ولا تخبروا الجنيه الإسترليني بالنبأ الحزين، ولكن من المرجح أن يطيح ذلك بعطلات أعياد الميلاد المقبلة على أدنى تقدير.

*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
&