محمد المختار الفال
الحديث المتنامي عن تصاعد الصراع الإقليمي والدولي على القرن الأفريقي وسباق التنافس على بناء قواعد ومراكز عسكرية ومصالح اقتصادية في المناطق الاستراتيجية على جنوب البحر الأحمر، يُدخل اليمن في هذا المجال، بل يجعله في مركز دائرة التنافس، لموقعه الاستراتيجي وارتباطه العضوي بمنطقة الخليج وتأثيره المباشر على الممر المائي الذي يشكل أحد شرايين الحركة في الخريطة العربية.
وقد زاد من حساسية الوجود الخارجي في هذا البلد تخطيط إيران وعزمها على مد نفوذها إليه من خلال ربط «الحوثيين» ببرنامجها التوسعي في المنطقة العربية، وتهيئتهم لهذه المهمة فكرياً وعسكرياً وسياسياً، وقد ظنت إيران أن فرصة تحقيق الهدف قد حانت، بعد أحداث ما سمي بالربيع العربي وما نتج منها من اضطرابات وخلخلة القوى القديمة وتطلع عناصر جديدة لكراسي الحكم، وخشيت طهران أن تسبقها مخرجات الحوار الوطني التي سعت إلى إخراج اليمن من دوامة الاضطرابات وحمايته من الوقوع في نفق الاحتراب الداخلي، فحركت «وكلاءها» الحوثيين للانقضاض على العاصمة صنعاء والاستيلاء على مؤسسات الدولة اليمنية بمساعدة «خطيئة» علي عبدالله صالح، ومن أوهمه أنه يستطيع التخلص من الحوثيين إذا انفرد بهم.
وسيسجل التاريخ أن «عاصفة الحزم» شكلت منعطفاً فاصلاً في مسيرة «المشروع الإيراني» في الجزيرة العربية، بعد أن ظل في الخفاء تحت عناوين: دفع المظلومية ونصرة الضعفاء ومحاربة قوى الاستكبار، حتى كشف عن وجهه يوم اقتحام «الضعفاء!» صنعاء وانقلابهم على الشرعية، فكان القرار التاريخي للملك سلمان بن عبدالعزيز، الخطوة العملية للوقوف في وجه هذا الخطر الذي يدخل ضمن مشروع أكبر في الساحة العربية.
والمنصفون لا ينكرون أن سياسة المملكة، قديماً وحديثاً، تعنى بمساعدة الأشقاء والأصدقاء، بما يوفر الأمن والاستقرار في أوطانهم ويسهم في تنمية شعوبهم، كما تعارض مبدأ «التدخل في الشؤون الداخلية» إيماناً منها بأنها تتعارض مع شروط استقلال القرار وحرية الاختيار وتوفير مناخ لتوافق أهل كل بلد على ما يناسبهم وينسجم مع واقعهم ويحقق مصالحهم، وقد التزمت السعودية بهذه السياسة مع الجميع، ومع الإخوة اليمنيين بصفة خاصة، فعلى رغم المساعدات الكبرى التي قدمتها الرياض وما زالت تقدمها، وقدرتها على تحريك من يملك القدرة في اليمن فإنها التزمت بالوقوف مع الشرعية واختيار الشعب اليمني، وكانت تدعو جميع الأطراف إلى الاحتكام لمنطق الحوار ولغة التفاهم والعمل على حماية الجبهة الداخلية من الاختراقات الخارجية، وكانت تحرص على محافظة اليمنيين على تعدديتهم وتنوعهم في إطار تاريخهم وماضيهم ورؤيتهم لمستقبلهم. ومن هذا المنطلق سعت، مع أشقائها الخليجيين، إلى مساعدة الإخوة اليمنيين على حل خلافاتهم بما يحفظ وحدتهم ويجنبهم خطر التنازع والحرب الأهلية، والكل يعرف الدور الذي لعبته الرياض في التوصل إلى نتائج الحوار الوطني المؤيدة بالقرارات الدولية. وظلت حريصة على عدم التدخل في الشأن اليمني، إلا بالقدر الذي يساعد أهله وقواه الفاعلة على تجاوز المواقف الصعبة، على رغم إدراكها أن بعض القوى لديها أجندة ضد مصالح وأمن المملكة.
واليوم الصورة واضحة، هناك شرعية تعمل للحفاظ على وحدة اليمن واستعادة استقراره وأمن مواطنيه والوقوف في وجه من يريد استغلاله ليجعل منه منصة الإساءة لأشقائه وزعزعة أمن بلدانهم، وهذا الهدف الكبير هو الذي تدعمه المملكة وحلفاؤها وتقف معه بإصرار، ودعمها لكل الجهود التي من شأنها إعادة الأمور إلى نصابها وفتح الآفاق أمام اليمنيين لإعادة ترتيب أوضاع بلدهم وتخليصهم من حال التمزق التي أدخلتهم فيها أطماع الحوثيين ومن يقف وراءهم من أصحاب المشاريع الظاهرة والخفية.
وما حدث بين علي عبدالله صالح وبين الحوثيين وما انتهى إليه من غدر قبيح، أثبت لليمنيين أن الانقلابيين لا يتحركون بإرادتهم ولا يعملون لصالح جميع أبناء بلدهم، بل باتوا أسرى منافع طائفية، تحركهم طهران في إطار مشروعها الكبير في المنطقة العربية الذي تتباهى فيه بأنها حققت منه السيطرة على أربع عواصم عربية، وعلى رغم ماضي علي صالح ومواقفه المتناقضة وتنكّره لعلاقة الأخوة والصداقة مع السعودية والخليجيين عموماً، إلا أن الرياض وحلفاءها وقفوا من تحركه موقفاً إيجابياً أملاً في تليين مواقف الانقلابيين وعودتهم إلى «مشروع المصالحة» الذي طرحته نتائج الحوار الوطني. اتخذت دول التحالف هذا القرار لأن القضايا الكبرى لا يجب أن يقف في طريقها سلوك ناكر جميل أو متقلب المواقف، فالمصالح الوطنية للشعوب تقتضي استثمار كل الإمكانات واستخدام كل الوسائل لتحقيق الأهداف.
ويلاحظ أن الجيش الوطني اليمني، بدعم من قوات التحالف، يحقق تقدماً ملحوظاً على الأرض في هذه المرحلة، وهي إنجازات تستحق أن تستثمر على الميدان السياسي، فالفعل العسكري الذي من دونه لن يتراجع أهل الأطماع مهمته تمهيد الطريق إلى طاولة الحل السياسي الذي من دونه لا يتحقق الاستقرار ويتوافر الأمن وترجع الحياة إلى اليمنيين، ولا بد أن يدرك الجميع أن ما يعقبه من «صراع الإرادات» لا يقل ضراوة عن المعارك الميدانية، فالتجربة أثبتت أن استقرار اليمن يحتاج إلى رؤية أكثر اتساعاً وتسامحاً وحكمة، فلن يحكم هذا البلد فصيل واحد بعد التجربة المريرة، بكل ضحاياها وتضحياتها، وهو محتاج إلى ما يضمن مشاركة كل أبنائه وقواه السياسية ومساعدته على عبور هذه المرحلة القاسية، التي ستترك من الآثار المادية والمعنوية ما لن ينمحي في القريب العاجل.
هذه المرحلة تحتاج من أشقاء وأصدقاء اليمن التخلي عن بعض الهواجس والمخاوف، فالمنطقة كلها تمر بحال «سيولة» وزيادة تفتيتها وتقسيمها ليست في مصلحة الجميع، ولا بد من إعادة النظر في ترتيب الأولويات، المخاطر الخارجية التي تهدد الأمن العربي بالغة الخطورة، وتوحيد الجهود لمواجهتها أولى من تضييع الطاقات في «تنقية» خلافات يمكن تأجيلها حتى يطمئن الجميع على صد التحديات الخارجية.
التعليقات