&عبدالله مناع

ربما هي «المثالية»؟! أو «الأفلاطونية»؟ وربما هو النزوع نحو طلب «الكمال»، أو البحث عنه هو الذي أوقع الإنسان العربي فريسة هذا «الانشطار» العميق الذي يعاني منه بين: «الحلم» و«الواقع» بين «طموحاته» الكبيرة و«إمكاناته» المتواضعة قياسا بإمكانات الآخرين، بين «آماله» الواسعة كالبحر والزاخرة كجوفه و«معوقاته» الذاتية والجماعية، بين «خياله» الخصب غير المحدود و«حقائقه» المحددة والجامدة.


والنتيجة لهذا «الانشطار» أننا إذا تحدثنا أو حلمنا أو قلنا شيئا عظيما مثاليا كاملا يسبح فوق موج الأحلام، ويطير بأجنحة الخيال ويعيش بـ«الآمال» وعليها، تماما كما قال الشاعر: «إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا». فنحن نريد ونقوم وننظر إلى كل ما ومن حولنا بتلك النظرة المثالية الأفلاطونية، أو نظرة «الكمال» والبحث عنه والأخذ بمقياسه، فـ«السياسي» مثلا هو من كان في عظمة «بسمارك»، ودهاء «كليمنصو»، وشجاعة «مونتجومري». و«الأديب» عندنا هو من في روائية «همنجواي»، ودرامية «شكسبير»، وعمق «سارتر»، وحدة «مورافيا». والفنان هو من كان في قوة «أنجلو»، وشفافية «رفائيللي»، ورشاقة «بيكاسو». و«البرلمانية» هي برلمانية بريطانيا، أو «جمعية» فرنسا، أو «ريجسنتاغ» ألمانيا، ولا أقل من ذلك، بل إن بعضنا من العرب أخذتهم رياح المثالية أو الأفلاطونية هذه بعيدا، فاعتقدوا أنهم بلغوا «الكمال» حقيقة، وأنهم بلغوه وحدهم وأن الآخرين غيرهم ما زالوا يحبون عند سفح التاريخ.


قد يقول البعض بأن هذه النظرة المثالية، وهذا التناول الأفلاطوني أو هذا الطرح الآخذ بمقياس الكمال -حتى وإن كان قولا بلا عمل، وحتى إن كان بمثل أعلى أو مثل عليا- فهو ليس عيبا في البنية العربية، ولا في النظرة العربية، لأنه يشكل حافزا للإنسان والأمة يلهمه ويلهمها، ويدفعه ويدفعها فإن لم يتحقق «كل» ذلك وبمقاييسه المثالية فإن بعض ما يتحقق منه سيكون مرضياً، وقد يكون كافيا لأمة ينقصها الكثير من ذلك، وليس بين يديها سوى أقل القليل منه، لكن البعض الآخر يرى في هذه النظرة وهذا الطرح والتناول عائقا يقيم جدارا من المستحيل في داخل النفس، فترتكس أو تنتكس به وتقعد عن أن تخطو إلى الأمام ولو خطوة واحدة، لأن الإنسان بطبيعته -ولا نظن أن الإنسان العربي يختلف في ذلك عن الآخرين- لا يبذل جهدا في أمر آمن باستحالته، ولا يجد في طلب أمر يعلم أن أدواته التي بين يديه لا تعين على تحقيقه. لكن من أين جاءت إنساننا العربي هذه النظرة المثالية أو الأفلاطونية، التي لا علاقة لها بواقعه؟ إن المفكر والفيلسوف والسياسي الإغريقي «أفلاطون»، والذي تنسب إليه هذه المثالية، كان بعيدا عنا، فقد عاش ومات في القرن الرابع قبل الميلاد، وفكره السياسي وفلسفته المثالية التي بناها على النخبة، وأقام بها دولة الفلاسفة التي فشلت مرتين، لم يقدر له أن ينقل إلى العربية في وقت مبكر، والذي نقل وترجم هو فكر تلميذه ومعارضه «أرسطو» على أيام «المأمون»، الذي شكل علامة حقيقية في التاريخ العربي لولا وقوعه في إشكالية «خلق القرآن». فقد ترجم كتب العلم والفلسفة، وقرب العلماء والمحدثين والمتكلمين وأهل اللغة والشعر والأدب والأنساب والأخبار، وكان يقدم لملوك الروم الهدايا ولا يسألهم إلا أن يبعثوا إليه بما لديهم من كتب، فبعثوا إليه بكل ما لديهم، فترجمها وحض الناس على قراءتها. ولقد كان فكر «أرسطو» يقوم على «الواقعية» لا المثالية، وكانت دولته تقوم على الطبقة الوسطى وليست على النخبة، وكان أسوأ ما فيه أنه دافع عن الرق، وجوده وبقائه. فكان الأوفق والأقرب أن تستقي جذورنا الفكرية والثقافية من «واقعية» أرسطو أو من الديموقراطية التي دعا إليها مبكرا، فمن أين جاءتنا هذه المثالية أو الأفلاطونية؟
الذي لا يمكن أن ينسى ولا نريد له أن ينسى هو أننا أمة عظيمة لها تاريخ وحضارة ومجد تليد، ودولة قامت على الإيمان بالعمل والعلم والعدل وحق الناس. ميراث من العظمة والكمال عشنا على نوره وبنوره، وقد أضاء العالم من مغربه إلى أقصى مشارقه. وقد بعدنا عن ذلك المجد، ولكن نزوعنا إليه ظل مستمرا، إلا أن هذا النزوع إلى المجد أخذ في التبدل والتغير حتى تحول في كثير من الحالات إلى اعتداد بالنفس، بـ«الأنا» والمبالغة في تمجيدها وتعظيمها مع الاحتفاظ بمثالية النظرة والقياس والمقارنة، حتى قال «المتنبي» عن نفسه:


ونفس لا تجيب إلى خسيس
وعين لا تدار على نظير
أي أنه صاحب نفس عظيمة لا نظير لها، ويقول في قصيدة أخرى:
وكم من جبال جبت تشهد أنني الـ
جبال وبحر شاهد أنني البحر
إن الاعتداد بالتاريخ والميراث تحول إلى «أنا» عربية و«أنا» جمعية متضخمة أهم سماتها المبالغات في تعظيم النفس وفي مدح الآخرين، فقد قال في واحد من عشرات مئات أبياته التي مدح بها «سيف الدولة»:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهي
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
لقد أوصلته المبالغة والتضخيم إلى تخوم الشرك أو الكفر، ومن قبل كان عمرو بن كلثوم قد قال:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا


لقد نسينا خلة «التواضع» -وقد كانت جزءا أساسيا ورئيسيا في بنية الإنسان العربي- التي يقول عنها أحد أساتذتها المعاصرين «غاندي»: «لا تستطيع أن تصل إلى الحقيقة إلا بالتواضع»، ومع نسياننا لخلة التواضع نسينا أيضا «الموضوعية» والإدراك وتقويم أنفسنا وما حولنا بـ«واقعية»، واحتفظنا بتلك النظرة الأفلاطونية المثالية والقياس بها، وكأننا نعوض بهذه النظرة على أنفسنا ما نفتقده لنرتاح، أو كأننا مشدودون إلى خارج الزمن الذي نعيشه والواقع الذي نتحرك فيه وفوقه.
إن الأمم الأخرى المتقدمة فعلا، والتي كان يصح أن تنظر إلى واقعها بتلك المثالية والأفلاطونية، وتصيغ قياساتها وآراءها وطروحاتها على المثل الأعلى أو «الكمال»، كانت أكثر تواضعا منا ومن إنساننا العربي. فـ«ديجول» كان يقول عن «فرنسا» في الستينيات من هذا القرن: «دولتنا متخلفة عن العصر بنصف قرن في التقنيات، وحتى في مفاهيمنا السياسية». ويروي أحد كبار الكتاب العرب أن اليابانيين عندما ذهبوا إلى «الاتحاد السوفييتي» في أول زيارة لهم في الخمسينيات كانوا يعتقدون أن الاتحاد السوفييتي متخلف بـ«عشرين عاما»، ولكنهم بعد أن رأوا بأعينهم وسمعوا بأذانهم قالوا بأنه متخلف «إلى الأبد». ولعل هذا يبرر ويوضح فلسفة «البيروسترويكا» -أو إعادة البناء- التي طرحها جورباتشوف في منتصف الثمانينيات.
ويروى عن المناضل والفيلسوف والمثقف والسياسي الهندي الكبير «جواهر لال نهرو» الذي يعتبر إحدى العلامات البارزة في تاريخ الفكر السياسي المعاصر، أنه قال في أواخر أيامه -وقبل وفاته بشهور في عام 1964- ما معناه: بأنه عندما جاء إلى السلطة في الهند وجد أمامه «هندين»، هند متقدمة متعلمة مثقفة واعية، تقرأ وتعمل وتنتج وتشارك في البناء، قوامها أربعون مليونا من الهنود، وهند فقيرة متخلفة جاهلة مشعوذة، قوامها أربعمائة مليون «تضاعف الرقم فيما بعد وأصبح تعداد الهند يزيد على ثمانمائة مليون». وكان عليه إما أن يوقف عربة المتقدمين انتظارا لأن يلحق بهم المتخلفون، أو أن يربط العربتين معا، فلعل «الأولى» تستطيع أن تشد «الثانية». ومن المؤكد أن لا أحد يستطيع أن يقول وبملء العقل والفم بأن الاتحاد السوفييتي وفرنسا وحتى الهند هي في عداد الدول المتخلفة. إن التقدم والتخلف لا يقاسان بـ«العمران» وبناء المصانع وحدهما مثلا، ولكنهما يقاسان -بوجود أو عدم وجود- الفكرة الشاملة لجماع عناصر التقدم الإنساني، ووجود -أو غياب- المشروع الكامل للأمة ومعرفة ومشاركة أفرادها في ذلك، فالتقدم هو علمي، وهو صناعي وثقافي، وفكري وسياسي وأدبي وفني وإنتاجي، وإلحاح بالرغبة الصادقة في المساهمة في حركة التاريخ ودوران الحضارات، ولعل أول معايير التقدم وأهمها هو ما دعا إليه «سقراط»: «اعرف نفسك»؟!


لقد كانت نتيجة انشطار الإنسان العربي بين الحلم والواقع، بين المثالية أو الكمال و«الواقع»، أن وجد نفسه في الفجوة بينهما، وكان مخرجه النفسي هو بـ«التعويض» حديثا عن المثالية، وأخذا بمقاييس الكمال أو البحث عنه. وكان طبيعيا أن يميل الإنسان العربي -أو حتى يحب- كل أولئك الذين يمدحونه ويمجدون «أناه» المتضخمة، ويحسسون على مثاليته الغائبة ونزعته إلى الكمال، ويمقت -أو حتى يكره- كل من يواجهه بـ«واقعه» و«حقائقه».
لقد غير «أفلاطون» بعض أفكاره، وتنازل عن بعض مثالياته في كتبه اللاحقة على كتابه «الأول».


إن المثالية أو الأفلاطونية العربية أو نزعة البحث عن الكمال عند الإنسان العربي، يرعاها ويغذيها ميراثه التاريخي والحضاري الكبير والقديم، ولا علاقة لها -فيما أعتقد- بتلك التي دعا إليها «أفلاطون». وبالتأكيد فليس المطلوب أن نهدم هذه المثالية حتى ولو كانت فكرية، أو عبارات على الشفاه، أو قياسا نعتسف به كل قليل أو كثير بين أيدينا، وليس مطلوبا تحطيم النزعة للكمال عند إنساننا العربي، مع مخاطر استمرار وجودها في غيبة الوعي، ولكن المطلوب هو أن يعي الإنسان العربي واقعه، والفجوة التي وجد نفسه فيها، في محاولة للخروج منها، ربما بـ«التواضع» لمعرفة الحقيقة. وبالتأكيد بـ«الموضوعية» وعدم الجنوح إلى الخيال والأحلام، وبالصدق مع النفس، وبـ«الواقعية» التي لم نستوعب منها غير الواقعية السياسية التي أرادوا لها معنى واحدا ووحيدا هو الاستسلام لشروط عدونا، فـ«الواقعية» ليست سياسية فقط، وليست بذلك المعنى الوحيد والبغيض. فـ«الاستسلام» لشروط العدو ليس واقعية، ولكنه ضياع وذل وهوان، وأبر ما يحمله وجدان الإنسان العربي ويجدر الحفاظ عليه، هو رفضه «الذل» ومقاومته «الهوان».

&