سلطان البازعي&&

هذه الحكاية سمعتها من صديق جيزاني، تقول: في أيام الحرب العالمية الثانية لم يكن في جيزان سوى جهازي راديو عند رجلين كليهما اسمه يحيى، وأصبح هناك اتفاق على أن يستمع أحدهما إلى إذاعة برلين والآخر يستمع إلى إذاعة لندن، وفي المساء يجتمع الناس ليستمعوا إلى برنامج «هنا برلين حيي العرب» عن أخبار الحرب من وجهة نظر المحور، بينما تروي إذاعة لندن الأخبار من منظور الحلفاء. وبذلك تتكون لدى الناس صورة شاملة عن مجريات الحرب الكونية التي تقترب آثارها من سواحل مدينتهم وتؤثر على معيشتهم الضنكة أصلاً.


ولم تكن الحال تختلف في مناطق أخرى، فأذكر أن والدي رحمه الله لم يكن ينام قبل أن يستمع الى نشرات إخبارية من محطات متعددة يعرف مواقيتها ويعرف موقعها على مؤشر الراديو الذي لم يكن يفارقه، وفي النهار كان الناس يقصدونه أو يقصدون المجالس التي يغشاها، ليستمعوا إلى تحليلات أبي محمد عن الأحداث التي تحيط بالعالم العربي، وخصوصاً تلك المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي، فقد كان بوعيه الفطري يعرف أن الأخبار لا تستقى من مصدر واحد مهما اعتقدنا بدرجة صدقيته وموثوقيته. فقد كانت إذاعات لندن و «صوت العرب» من القاهرة ولاحقاً «مونت كارلو» تستحوذ على سمع الجماهير، وكان الجدل في المجالس يدور حول مقارنة الحقائق بين ما تنقله هذه الإذاعات الموجهة الى العالم العربي.

وحين جاء البث الفضائي، شاهد العرب للمرة الأولى حرباً على الهواء، أثناء معارك حرب الخليج الثانية التي أعقبت غزو صدام حسين للكويت، فالنقل عبر الأقمار الاصطناعية أتاح للمشاهدين متابعة ما يحدث في بغداد والرياض والظهران وعمان وتل أبيب في اللحظة نفسها، حتى أن رسام كاريكاتور في صحيفة أميركية صوّر مطلقي الصواريخ الباليستية في العراق يطالعون أخبار «سي إن إن» ليتأكدوا من دقة إصابتهم الهدف في المدن السعودية، ولا أشك في أن قيادات «عاصفة الصحراء» كانوا يشاهدون البث الحي من بغداد.

وبلغ تأثير وسائل الإعلام في صناعة القرار درجة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب افتتح عهده بمعركة ضد وسائل الإعلام والصحف وشبكات التلفزيون الكبرى التي يعتبرها ممالئة للديموقراطيين ومعارضة له (وهي كذلك بالفعل) ووصمها بالكذب وترويج الأخبار الزائفة، وهذه الوسائل بدورها أعلنت الحرب على الرئيس بكل قواها التي تظن أنها مؤثرة في الرأي العام، حتى أن المذيع الحواري الشهير لاري كنغ قال أخيراً: «إن شبكات التلفزيون، بما فيها شبكة سي إن إن التي كان يعمل بها سابقاً، لم تعد تقدم أخباراً وإنما خصصت كامل نشراتها وتحقيقاتها للرئيس ترامب».

وفي قضية المرحوم جمال خاشقجي تبينت درجة الاستقطاب بكل وضوح، حين شنت وسائل الإعلام الأميركية على وجه الخصوص وبالتبعية لحقها كثير من وسائل الإعلام الغربية، حملة كبرى لمحاولة تجريم المملكة العربية السعودية لا لشيء إلا لأنها تعتقد أنها تضرب حليفاً للرئيس ترامب، ولم يعد البحث عن الحقيقة هو المعيار، كما لم تعد القاعدة الصحافية الشهيرة التي تقول بالتأكد من الخبر من مصدرين قبل النشر ذات اعتبار، فتورطت هذه الوسائل –كما شرحنا هنا سابقاً- بنشر حقائق محرفة وإشاعات مضخمة وأصدرت أحكاماً وجرمت أشخاصاً، ثم اكتشفت هذه الصحف وشبكات التلفزيون، كما أكدت دراسات أميركية أنها استخدمت كأداة في حرب إعلامية كبرى لا علاقة لها بالحقائق التي قد تحيط بأي جريمة قتل تحقق فيها أجهزة الأمن والقضاء، فقد كان الهدف هو تجريم السعودية وبالتالي تجريم المتحالف معها أي ترامب نفسه.

ترامب جلس مع مذيعة «سي بي إس» ليزلي ستاهل التي أمطرته بخمسة أسئلة متتابعة حول القضية، وكلها من نوع الأسئلة الافتراضية، حتى اضطر الى قول عبارة: «ستكون هناك عقوبات قاسية على السعودية»، ومنذ إذاعة المقابلة أصبحت هذه العبارة هي العنوان الوحيد البارز على كل القنوات والصحف وشبكات التواصل الاجتماعي.

في فرنسا، لم يحتمل الرئيس إيمانويل ماكرون تكرار السؤال عن القضية نفسها، ورفض الإجابة قبل أن تتبين الحقائق كاملة، وقال للصحافيين كلاماً معناه «أنه لن يدير الدولة الفرنسية بناء على مثل هذا النوع من الأسئلة والافتراضات ومواقف الآخرين».

وإذا كانت هذه هي الحال مع المؤسسات الإعلامية الكبرى من وزن «نيويورك تايمز» و «واشنطن بوست» والـ «بي بي سي» و «فرانس أنتير» و «رويترز» وغيرها، هذه التي تزعم أن لديها مقاييس دقيقة في البحث عن الحقائق، وأن لديها قيماً مهنية تلتزم بها، فكيف ستكون الحال مع الانفجار المعلوماتي الذي جاءت به شبكة المعلومات (الإنترنت)؟ فوسائل التواصل الاجتماعي (والتسمية ما زالت تفتقر للدقة لتوصيفها) تعج بكم هائل من المعلومات لا تعطي لكثافتها وسرعة تدفقها مجالاً للتدقيق فيها والتأكد من صحتها.

انظروا فقط إلى ما تحمله لكم مجموعات برامج المحادثة مثل «الواتساب» من معلومات، ستجدون أن المسألة لم تعد ببساطة المقارنة بين وجهتي نظر متقابلتين لاستخلاص الحقيقة، بل أنها تحولت إلى فوضى معلوماتية لا رابط لها ولا ضابط.

والمسألة لم تعد تتعلق بحرية التعبير والرأي، بل إنها تعدتها إلى تهديد مباشر لأمن المجتمعات وسلامتها، وهذا أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح يخاطب أعضاء مجلس الأمة أخيراً قائلاً: «لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي التي تعج بالحسابات الوهمية المغرضة وبكل أسف أداة للفتن والابتزاز والهدم والاسترزاق المدمر وإنني أدعوكم للإسراع بإصدار التشريع اللازم لضمان انضباط استخدامها في الإطار الصحيح الذي يراعي أمن المجتمع وقيمه الفاضلة ويمنع أشباح الفتن والتخريب من المس بكرامة الناس وسمعتهم». وفي الجولة الأخيرة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لعدد من مناطق المملكة ظهر موقع إعلامي قطري وأغرق متابعيه على «تويتر» بأكثر من 20 تغريدة تحلل الأسباب التي دعت الملك إلى عدم اصطحاب ولي عهده الأمير محمد بن سلمان في الجولة، وضحك السعوديون كثيراً وهم يرحبون بالأمير الشاب في منازلهم في القصيم وحائل. لكننا نسمع ونقرأ في كل يوم تقريباً أخباراً مزيفة وإشاعات حول كل حدث صغير أو كبير مصدرها مجهولون يتداولها الناس بمجرد لمسة على شاشات هواتفهم، ثم يكتفون بالقول: «كما وردني».

والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني نشر بعد كارثة وفاة مجموعة من الأطفال غرقاً في السيول مقالةً بعنوان «منصات التواصل أم التناحر الاجتماعي»، وقال فيها: «ولا يخفى على أي متابع للنقاشات الرائجة على الإنترنت، أن الإشاعات والأخبار الملفقة هي الوقود الذي يغذي به أصحاب الأجندات متابعيهم لاستقطاب الرأي العام أو تصفية حسابات شخصية وسياسية»، وأضاف الملك: «وتحضرني هنا موجة الإشاعات والأكاذيب التي انتشرت في فترة إجازتي المعتادة. لا بل حتى وبعد عودتي واستئناف برامجي المحلية، ظل السؤال قائماً: أين الملك؟! ليستمر البعض بالتشكيك في وجودي حتى وأنا أمامهم. هل أصبح وهم الشاشات أقوى من الواقع عند البعض؟».

العاهل الأردني طالب أيضاً بإيجاد تشريعات وطنية توقف هذه الفوضى، صيانة لحرية التعبير ولإيقاف الإشاعات والأخبار المضللة ومنع التحريض على الكراهية.

تعدد المنابر نعمة يمكن ببساطة أن تتحول إلى نقمة، ونتحسر على بساطة عصر «هنا برلين» و «راديو لندن».

&