&محمد كركوتي

&

«سينكمش اقتصاد بريطانيا بنسبة 9.3 % إذا ما خرجت من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق» من تقرير لوزارة الخزانة البريطانية يوم الثلاثاء المقبل ستنقلب بريطانيا سياسيا رأسا على عقب. إنه اليوم الذي سيصوت فيه مجلس العموم على اتفاق خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وهو اتفاق حملته رئيسة الوزراء تيريزا ماي من بروكسل وقالت لنواب الشعب "إما هذا الاتفاق أو خروج بلا اتفاق أو لا خروج نهائيا". الصدمة هنا لم تكن فيما يتضمنه الاتفاق فقط، بل في عدم وجود خطة أخرى بديلة تضعها ماي أمام النواب إذا ما أخفق الاتفاق في التصويت التاريخي لـ"العموم" يوم الثلاثاء المقبل. المصيبة هنا تكمن في أن طرح رئيسة الوزراء أنشأ جبهة "غير رسمية بالطبع" جمعت الأضداد بعضهم مع بعض. شملت أولئك الذين يؤيدون بشدة الخروج تحت أي ظرف، والذين يدعمون البقاء بأي صورة كانت. ومن هنا زادت التوقعات بسقوط الاتفاق المشار إليه في التصويت، إلا إذا أحدثت تيريزا ماي خرقا تصويتيا حتى قبل دقائق من الموعد المحدد له. لا أحد يمكنه أن يحسد رئيسة الوزراء البريطانية على وضعيتها الراهنة. فهي محاصرة ليست فقط من أحزاب معارضة تريد التخلص من حكومتها بأي ثمن، ومن حزبها بأي شكل. بل أيضا تخضع للحصار من داخل حزبها "المحافظين"، من قبل الذين يريدون الخروج حتى بدون اتفاق. وهذا ما يبرر مثلا استقالة سبعة وزراء من حكومتها بعد أقل من أسبوع من طرحها الاتفاق أمام مجلس العموم. ناهيك عن الوزراء الذين استقالوا قبله، وفي مقدمتهم وزيرا شؤون الخروج "بريكست"، إضافة إلى وزير الخارجية وغيرهم. حتى إن جريدة واسعة الانتشار "إيفننيج ستاندرد"، نشرت قبل أسبوعين مانشيتا عريضا على صدر صفحتها الأولى على الشكل التالي "نرجو من آخر وزير سيخرج من الحكومة، إطفاء النور قبل أن يرحل".

وهي عبارة كوميدية لكنها معبرة بالفعل على الحالة الحكومية السائدة حاليا. تيريزا ماي أخذت دعما مباشرا من المفوضية الأوروبية نفسها، لكي تسوق الاتفاق على نواب مجلس العموم. وهذا الدعم في ظاهره سلبي لكنه قد يكون فعالا. وهو يتعلق بإعلان رسمي صريح من المفوضية بأن أحدا من المسؤولين أو النواب البريطانيين لا يفكر للحظة واحدة بإعادة التفاوض حول الاتفاق، أو فتح ملف تفاوضي جديد. فإما هذا الاتفاق أو الخروج بدونه. وفي الحالة الأخيرة، على المملكة المتحدة أن تتحمل تبعات خروج بلا اتفاق أو لوائح تنظم العلاقة بين الطرفين، ناهيك عن القضايا المتداخلة بينهما التي لا يمكن أن تستوي إلا بالتنسيق والاتفاق والتفاهم، وفي مقدمتها بالطبع وضعية إيرلندا الشمالية، وجبل طارق وغيرهما، بل حتى التموين الدوائي الأوروبي لبريطانيا. الخسائر حاضرة على الساحة البريطانية فيما لو تم "بريكست" بلا اتفاق. وهذه الخسائر أعلنها دون مواربة كل من وزارة المالية وبنك إنجلترا المركزي. وربما يكون مفيدا استعراض بعضها باختصار. فالوزارة والبنك يشيران إلى أن بريطانيا ستفقد أكثر من 9 في المائة من اقتصادها في حال الخروج بلا اتفاق، وستفقد 6.7 في المائة في حال التزمت المملكة المتحدة بقانون التجارة الحرة، ونحو 3 في المائة حتى لو صادقت على الاتفاق الذي جلبته ماي من بروكسل. أي سيناريوهات الخسائر واردة في كل الحالات، لكنها متفاوتة من حالة إلى أخرى. وفي النهاية يبقى البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي هو الشيء الوحيد الذي سيحافظ على مكانة ووضعية بريطانيا الاقتصادية، ويجعل اقتصادها ينمو بالصورة المرضية.

لم يعد مهما أي مؤشر (أو مؤشرات الآن)، قبل يوم الثلاثاء المقبل ستكون المعركة حامية بين نواب مجلس العموم حول ما إذا سيمررون الاتفاق ويصنعون تاريخا جديدا بالفعل لبلادهم، أو أنهم سيسقطون الاتفاق، ما سيدفع باتجاه انتخابات عامة مبكرة، أو حتى استفتاء ثان حول الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهم بذلك أيضا يصنعون تاريخا من زاوية أخرى. لا أحد يحلم في لندن بمفاوضات أوروبية جديدة، بل لا أحد يفكر للحظة في أي معاملة أوروبية خاصة للمملكة المتحدة، فإن القبول بالاتفاق أو لتخرج نحو بقية بلدان العالم، وهذه الأخيرة أعلنت في غير مناسبة، أنها تفضل التعاون مع بريطانيا تجمعها علاقات جيدة مع الاتحاد الأوروبي، وليس العكس. وعلى رأس هذه البلدان اليابان نفسها. ولذلك فإن الخروج بلا اتفاق هو في الواقع انتحار سياسي اقتصادي بريطاني، وليس أوروبيا. لحظة الحقيقة ستظهر في أعقاب إعلان نتائج تصويت مجلس العموم على اتفاق الخروج، وهي لحظة من تلك التي ستحدد مصائر كثير من الجهات والأفراد. إنها اللحظة التي ستضع المملكة المتحدة أمام حقائق جديدة، من بينها إمكانية أن تتفكك بالفعل لأنها فضلت أن تكون وحدها. أو على الأقل راهنت على أدوات ليست سوى أوهام تاريخية باتت تدعو للسخرية.

&