ثريا العريض 

أنا مع الإصرار على التوطين.. وقد طالبت به منذ الثمانينات في عز تصاعد أعراف الطفرة والاستسلام للراحة لسهولة اجتذاب العمالة من الخارج والاستقدام بتكلفة أقل من توظيف المواطنين. وناديت وقتها أن مجالات الأعمال والخدمات المساندة التي تتطلب المهارات يمكن شغلها بالمواطنين بعد التدريب المطلوب. وأن الجامعات يجب أن توفر تخصصات للخدمات التقنية والطبية المساندة. وأن الحاجة مستقبلاً هي للمعاهد التقنية التي تخرج مؤهلين بالمهارات للتشغيل والصيانة والإدارة والعمل الميداني. وأن الاستمرار في تخريج حاملي وحاملات شهادات في تخصصات نظرية سيكون له نتائج غير مستحبة.. بل وكارثية. لأن الاستمرار في الاعتماد على استقدام غير المواطنين يعني تسرب المال من دورة الاقتصاد المحلي.

والتوطين لا يتم ببساطة استبدال أجساد وعقول وسواعد لا تملك المهارات المطلوبة للمجالات التي يشغلها ويقدم خدماتها الوافدون. وتضيف لتفاقم الأوضاع انحرافات التستر وتشغيل عمالة غير نظامية.

التنظيم مطلوب لتغيير المعادلة والأوضاع. ولكن البدء في العلاج يبدو مرًا وصعب الابتلاع؛ شبابنا وشاباتنا محبطون, ومرئيات ومتقبلات مجتمعنا لا تواكب الحاضر، ومسؤولونا بالكاد يستطيعون مجابهة كل التأزمات المتداخلة والمترابطة الجذور والتفرعات لمشكلة مركبة: البطالة ومجالات العمل والاستقدام، ما يحدث فيها وما ينتج عنها.

وحين نواجه أوضاعنا وتفاصيلها بالرصد والتحليل نجد مفارقات وأزمات تعوقنا عن مواجهة تحديات التنمية بالفعالية المطلوبة. ومن أهمها ضعف التدريب المهني والإعداد النفسي والقيمي, وتقبل تعطيل المواطنين عن العمل في أي موقع عام تحت تبريرات تخوفات واحتمالات واهية.

باختصار؛ كمجتمع مؤسساتي لم يعد يمتلك قدرة مادية افتراضية عالية, ويحاول مواكبة إنجازات المجتمعات المتقدمة نعاني أخطاء إستراتيجية معظمها متعلقة بتشبثنا بمعتاداتنا وأعرافنا التي لم تعد تواكب الأوضاع الحالية: ما زلنا نؤمن أن العمل اليدوي لا يليق بنا ولا بأبنائنا ولا بناتنا، بل ما زال هناك من يرى أن الأفضل هو ألا تعمل الفتيات والسيدات في الحيز العام.

ما يبشر ويدعو للتفاؤل أننا على مستوى صناع القرار والمسؤولين لم نعد نتفاعل بأسلوب ردود الفعل لحل الأزمات بعد وقوعها, أو على الأقل احتوائها مظهريًا؛ بل بمنطلق المبادرة والتخطيط أي توقعها مسبقًا وإيقافها قبل حدوثها أو تفاقمها. وعلينا ألا ننزلق لخيار الحلول السهلة أي معالجة المشكلات بعد تفاقمها بحلول تجميلية وتسكينية تتوجه للشكليات وليس أصل المشكلة.

هنا أقترح على مؤسساتنا التعليمية من مرحلة ما بعد الإعدادية العامة أن تدخل كعامل دعم أساسي للتطور المطلوب, والتأهب لترشيد وعي المجتمع, وتسهيل تنفيذ القرار الاقتصادي: نحتاج أن يشمل التعليم ما بعد الثانوية في المعاهد والكليات والجامعات مسارات وتفرعات جديدة تؤهل الطلاب للدخول في المجال الصناعي والتخرج بمهارات مفيدة. ونحتاج للإرشاد واكتشاف الميول العملية مبكرًا للتوجيه المنتج ذي المردود لاحقًا.

ركزنا كثيراً على المناهج التنظيرية والتدريب للخدمات المكتبية وأهملنا متطلبات وضرورات العمل اللا مكتبي كالتصميم والتشغيل والصيانة وإدارة المنشآت.

جميل أن تأتي إلينا فرصة التصنيع ولو بدئيًا بشكل تجميع لقطع صنعت في الخارج. والأجمل أن يكون فيها فرصة لتجذير الصناعة والصيانة كمجال للعمل لشبابنا وشاباتنا وتدريبهم للإضافة الذاتية مستقبلاً.

ليكن أفق الرؤية ممتدًا ورحبًا ولنتحول فكريًا وعاطفيًا, وسنرى مجالات النجاح تفتح على مصراعيها. وسينجح المبادرون. فلتبق المبادرة للتطور في أولويات اختيارات المعنيين بالأمر والمتضررين من الأوضاع القائمة.