محمد المزيني

 لا أحد يحب الحروب أو يسعى إليها، إلا أن يكون مدفوعاً إليها دفعاً بعد أن سقطت لغة الكلام وبلاغات الخطاب السياسي، ولم تعد المفاوضات مجدية، ناهيك عن استحالتها؛ مثل واقع الصراع السياسي اليمني، الذي أفضى إلى تسلق الحوثي منه للوصول إلى الحكم بقوة السلاح الغاشمة، وتبنٍّ إيراني مدعوم بقوة العدة والعتاد، ليؤول الواقع السياسي إلى عاصفة أججت الصراع المسلح، وأوجدت واقعا مختلفا على الأرض، إذ لم يعد اليمن مع الحوثي محكوما بإرادة يمنية محضة منتخبة من الشعب، بل بجماعة متمذهبة اتكأت على إيران، وبهذا تصبح المعادلة مقلوبة غير قابلة للحل إلا بالمواجهة المسلحة، لأنه من الصعب جدا وغير المنطقي أو المعقول قبول الوجود الحوثي الإيراني جاثما على كيان اليمن، ومن غير المتصور السماح له بتكوين دولة صفوية أخرى متاخمة للحدود السعودية.

فإن كانت السعودية علقت بمشكلات اليمن وتحولاته البائسة وابتلعتها على مضض، ودفعت بسياستها واقتصادها أكثر من 50 سنة كي يستقيم دولة مستقرة، بلا جدوى، فقد ظل اليمن هو اليمن، لم يستطع الخروج من أزماته السياسية والاقتصادية، التي أثرت سلباً في كل مناحي الحياة اليمنية، بينما تقدم كثير من الدول التي كانت أشد معاناة وأبأس حالاً، منها؛ عُمان على سبيل المثال، التي تقاسمها الحدود البحرية، في حين باتت اليمن في قاع الجوع والفقر تعصف بها رياح، لا التغيير كما في كتاب الشامي، بل القبيلة والمذهب، ويوم أراد «نخبة مثقفيها» الخروج من مأزقها السياسي للبحث عن بوابة تفضي بهم إلى دولة تستنشق هواء الحرية، لتفتح أبواب الصراع على مصراعيها أمام الحوثيين الذين قفزوا على أكتافها وأسقطوا كل محاولات الخروج من المأزق، بعدما تحقق لهم احتلال صنعاء في 2014، ثم الانقلاب على الشرعية اليمنية في 2015.

كيف نتصور اليمن بقيادة الحوثي المرفوض حتى من كثير من أبناء الطائفة الزيدية، لانسياقه خلف الدعاية الإيرانية؟ ماذا سيحدث لاحقا فيما لو تمكن الحوثيون من مفاصل اليمن، وهم يعلنون ولاءهم لملالي إيران الطامحين إلى الوصول إلى قلب الجزيرة العربية؟ هذا ليس كلاما إنشائيا، بل اعترافات وتصاريح لملالي إيران يرددونها في كل شاردة وواردة، فاليمن هي اللقمة السائغة والثغرة التي يسهل منها تحقيق مطامعهم، ومع ذلك لا يسعهم، كما تعودوا في كل حروبهم، المواربة من الدخول مباشرة في خط المواجهة الأول، يكفيهم مرحليا تأسيس ميليشيات تابعة لهم، إلا مع الحوثي، فالمطامع أوسع وأعمق، فصعودهم فوق عرش اليمن يعني أن اليمن أصبحت ولاية إيرانية، ما سيمكنها من الوصول إلى خطوط التماس الأولى مع السعودية، كما سيصلها عن قرب بالبحرية.

إذن الحرب في أساسها ليست مواجهة مباشرة مع اليمنيين، بل للوجود الإيراني داخل اليمن، مع إعادة الشرعية السياسية إليها، فهي ضمانة أكيدة لقطع دابر الوجود الإيراني.

لنتصور ما سيحدث فيما لو تحقق لإيران ما تريد! فعاصفة الحزم ومن ثم إعادة الأمل اللتان جاءتا استجابة لتصحيح المسار السياسي اليمني، على رغم أننا لم نكن نتمنى أن تطول، فإنها بمثابة الحائل المتين دون أطماع ملالي ايران.

التاريخ يعيد لنا نفسه بأشكال متعددة؛ ماذا لو قبل ونستون تشرشل باتفاق سلام مع هتلر، الذي كان يتأهب لحسم المعركة لمصلحته ويضم جميع دول الكومنولث إلى حوزة ألمانيا.

إذن، الحرب ليست كلها شر، ما دامت ستدفع عنك ما هو أكثر شرا منها، و أكثر الشرور هو تنامي الثقة المطلقة بالقدرات الذاتية، والتلويح بتوسيع دائرة الحرب إلى أبعد مدى، فالحروب الصغيرة قد تلد حروباً أكبر لمجرد ارتكاب خطأ فادح يقود إليها، مع الإيهام بالقدرة على الانتصار والعجب بالنفس، فصدام حسين كان يرى أنه يمتلك رابع أقوى جيش في العالم، استطاع به هزيمة ايران، إلا أنه فقد بوصلته في الكويت وعرته الحقائق من كل ادعاءاته الفجة، لم تكن صواريخ سكود كافية لحرق الرياض، وتل ابيب، لقد فاته أن أنسب الأوقات لعقد الصفقات الكبيرة هي أوقات الحروب، إذ يتسابق إليها تجار السلاح من كل حدب وصوب من جهة، والمفاوضون من جهة أخرى، فكلما طال أمدها حققت مغانم ضخمة، عندها ستنكشف الأقنعة السياسية، فلا يعرف العدو من الصديق، كل ذلك سيأتي على حساب الشعوب، ولنا في سورية والعراق وليبيا عبرة.

أستغرب لغة التباهي بامتلاك الأسلحة المندلقة باسترخاء من ألسنة بعض مدعي السياسة، بما يشبه التلمظ لتوسيع دائرة الحرب في اليمن والمواجهة المباشرة مع إيران، وكأنهم بذلك يستعجلون إحراق المنطقة برمتها، فليس من مصلحة إيران والسعودية الدخول في مواجهة مباشرة، بل إن من مصلحة إيران تحديدا أن تدرأ عن نفسها الانسياق خلف هذا الاتجاه، وأن تتخلى عن سياستها التوسعية من خلال ميليشياتها العميلة في العالم العربي، كي لا ينقلب السحر على الساحر، وتصبح هدفاً مثاليا لغزوها من الخارج بغية اسقاط نظام الملالي، للخلاص من أطماعهم التوسعية، فلو فكرت أن صواريخ سكود هي من أسقط نظام صدام حسين لما تجرأت على اتخاذ اليمن منصة لإطلاق صواريخها الباليستية على السعودية، واللبيب بالإشارة يفهم.