عبد الرحمن الحبيب

 التعيينات الأخيرة التي قام بها الرئيس الأمريكي، خاصة تعيين بومبيو وزيراً للخارجية وبولتون مستشاراً للأمن القومي، وهما معارضان بشدة للنظام الإيراني، تشير إلى احتمال قوي بانسحابه من الاتفاق النووي في شهر مايو القادم موعد المهلة النهائية التالية لتمديد فترة الإعفاءات من العقوبات.

إذا انسحبت أمريكا من الاتفاق فإنه واقعياً يفقد أغلب قيمته، فبالأساس المفاوضات التي بدأت منذ 12 سنة كانت من الناحية العملية بين أمريكا وإيران، وما الدول الغربية الأخرى إلا مكمل للجانب الغربي. هنا، أمام النظام الإيراني خيارات صعبة: الأول تصعيدي بالانسحاب من الاتفاق والعودة لبرنامجها النووي الحربي؛ والثاني على عكسه، الالتزام بالاتفاق لاستمالة الأوربيين لصفهم ومحاولة شق الصف الغربي؛ وثمة خيار وسطي بينهما. لكل خيار عواقب؛ فما الذي سيختاره النظام الإيراني، وما عواقبه؟

بالنسبة للخيار التصعيدي فهو الأكثر ترجيحاً لأنه يمثل الطريقة النمطية التي دأب عليها النظام الإيراني في التعامل العدائي مع الغرب والقوانين الدولية، مما نتج عنها عزلة سياسية وعقوبات اقتصادية مسببة أزمات معيشية للشعب الإيراني. حتى بعد توقيع الاتفاق النووي كثيراً ما عبر المرشد الإيراني علي خامنئي، بأن أمريكا تسعى لقلب النظام، وأن الاتفاق النووي مجرد غطاء لتحقيق لذلك. وكذلك الحرس الثوري الذي صارت له اليد الطولى في إيران يرى أن الاتفاقات مع الغرب مجرد خديعة، لذا يرحب بإلغائها وهو أصلاً لم يرحب بتوقيعها.

وحتى على مستوى الحكومة الإيرانية، فمنذ عام 2006 كانت تحتفل رسمياً بالعشرين من شهر الحَمَل (يوافق 8 أو 9 أبريل) كيوم «التكنولوجيا النووية»، مظهرة العداء والتهديد للغرب والمبالغة بالإنجازات النووية ودخولها «نادي الدول النووية». لكن هذا الاحتفال الحربي تحول عام 2015 بعد توقيع الاتفاق النووي، إلى التركيز على الجوانب السلمية للبرنامج النووي، لتجنب الانتقادات الأوربية. وفي الأسبوع الماضي احتفالاً بهذا اليوم، عادت لغة العداء ضد الغرب مع احتمالية انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي.

في ذلك الأسبوع أطلق العديد من المسؤولين الإيرانيين تهديداً ووعيداً وعلى رأسهم الرئيس الإيراني حسن روحاني محذراً بأن أمريكا ستندم، وأن البرنامج النووي سيصبح «أكثر تطوراً بكثير عما كان عليه قبل الاتفاق في غضون ساعات وأيام». ورغم أن عبارة «ساعات وأيام» مبالغة تثير التهكم، فقد سار على نهجها كثير من المسؤولين الإيرانيين، فضلاً عن إظهار العسكريين لارتياحهم من فكرة إعادة إحياء البرنامج النووي لأغراض حربية.

لكن لهذا الخيار التصعيدي أثمان باهظة، فهو يعني عودة النظام الإيراني لمساره النمطي وسيقابله مزيد من العقوبات الأمريكية ومساندة من الدول الغربية للموقف الأمريكي ومن ثم سيؤدي لمزيد من العزلة الدولية لإيران، وتفاقم الأزمة الاقتصادية فيها، خاصة مع تدهور الريال الإيراني الذي خسر ثلث قيمته في سعر الصرف خلال الأشهر الماضية مع توقع انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي.

بالنسبة لحكومة روحاني يبدو هذا الخيار انتحاري، لأن رهانه الشعبي كان على تحسين الوضع الاقتصادي المتردي، وإيقاف موجة الاحتجاجات الشعبية بسبب تدني مستوى المعيشة، أما التهديد الذي أطلقه ضد أمريكا فهو للتسويق الإعلامي. لذا، يظهر الخيار الثاني، وهو ضبط النفس إذا انسحبت أمريكا من الاتفاق. وقد ألمح بعض المسؤولين الإيرانيين أنهم لن يصعدوا الموقف، مثل قول رئيس «منظمة الطاقة الذرية الإيرانية» علي أكبر صالحي: «إذا تخلى الأمريكان عن الاتفاق، فالمرجّح لحدّ كبير ألا تحذو أوروبا حذوهم، وستبقى أمريكا بمفردها». هنا، قد يواصل الإيرانيون محادثاتهم مع الأوربيين، مقدمين أنفسهم كطرف ملتزم بالاتفاق مقابل التنصل الأمريكي منه، كي لا يتشكل تحالف غربي موحَّد ضدهم، آملين باستمالة الأوربيين لجانبهم، وإحباط أي تحالف تقوده أمريكا ضدهم.

لكن خيار التهدئة ليس من سلوكيات الدولة الإيرانية حتى الآن، لذا يظهر الخيار الثالث الوسطي بين الخيارين السابقين: أي العودة لعمل المنشآت النووية لما كانت عليه قبل الاتفاق، وفي نفس الوقت تجنب أي إجراءات ظاهرية تنتهك «خطة العمل المشتركة الشاملة» وتغضب الدول الأوربية. هذا الخيار يحتاج لمهارة في التحايل على الاتفاقات لا يفتقده النظام الإيراني لكن قد لا ينطلي على الدول الأوربية.

هذه الخيارات ستتأثر بالنشاطات الدبلوماسية الحالية التي تقودها الدول الأوربية من جهة وأمريكا من جهة أخرى، إذ تسعى فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى إقناع شركائها الأوروبيين بدعم فرض عقوبات جديدة على إيران خارج الاتفاق النووي، خاصة على برنامجها الصاروخي، كطريقة لإقناع ترامب بالتمسك بالاتفاق النووي. بالمقابل فأمريكا لها حساباتها فقد لا تنسحب من الاتفاق إذا رأت أن حلفاءها الغربيين يمارسون ضغوطاً جدية على إيران، وأن عقوباتها الإضافية كافية كحل وسط، كما حصل حين أقرّ الكونغرس الأمريكي العقوبات الأخيرة على إيران.

في كل الأحوال، يبدو أن هذا الاتفاق النووي بدأ يفقد قيمته، فحتى لو لم تنسحب أمريكا منه واستمرت بممارسة عقوبات تصاعدية على إيران وحذرت من تعامل الشركات والبنوك العالمية الكبرى معها فإن إيران لن تستفيد اقتصادياً من الاتفاق النووي الذي قد يصبح مع الوقت بلا قيمة فعلية؛ ومن ثم تكون أمريكا ألغت عملياً الاتفاق دون أن تنسحب منه على الورق..