عمر مسقاوي 

في أصول الثقافة الغربية نشأ مصطلح «الآخر» أي ذلك الغائب في مكونات مصطلحي «الثقافة» و «الحضارة» في فلسفة القرن التاسع عشر، والذي كان يدخل في ذلك الزمن تحت عنوان الأهلي indigene مسوِّغاً منطق ثقافة الاستعمار والأرض الخالية في آسيا وأفريقيا.

هذا المعيار، وبعد مرور قرنين من الزمان، ما زال يطبع السياسة الغربية التي تنظر من منصة قوتها إلى مداها فقط، وما سوى ذلك هم الآخرون. وهكذا أصبح الفلسطينيون هم الآخر الغائب أمام إسرائيل.

وقد نشأ مصطلح «الأقليات» تأسيساً لمفهوم الآخر هذا، وذلك كلّه غريب عن إطار حضارتنا العربية الإسلامية الإبراهيمية. هذه الحضارة نظرت إلى الإنسان كمفهوم كوني شمولي. فمفهوم «الأقليات» لا معنى له في عمق ثقافتنا، والأقلية الإسلامية، في أي مجتمع كانت، هي أكثرية لأنها حملت معها رسالة اتصال بالمفهوم الكوني الإنسان. والأمر نفسه ينطبق على الأقلية العددية من غير المسلمين الذين حققوا بأكثرية حضورهم ما أثرى بغداد والأندلس.

هذه المقدمة نطرحها كأساس لرؤية الحاضر والمستقبل في مسارنا الوطني سواء في لبنان أو في العالم العربي. ذلك المسار الذي بُنِيَ على مفهوم مستحدث هو «التعددية» في الوحدة الوطنية. ففي مشاريع منطقة الشرق الأوسط التي جرت مناقشتها في الكونغرس عام 1979 من القرن الماضي، تقررت إستراتيجية ما سمي حقوق الأقليات المذهبية والعنصرية. وعلى ضوء هذه الإستراتيجية تكون ما سمّي الجغرافيا السياسية من منظور أميركا نحونا، وليس من منظورنا نحو مستقبلنا.

وهكذا شرعت الدراسات الاستشراقية، تحت عنوان النزعة الشيعية أو السنية أو سواها من المكونات، ترفع راياتها تحت عنوان Lechiisme. وقد صدرت إحدى هذه الدراسات عام 2002، وقد توقعت هذه الدراسة في فصل تحت عنوان «صحوة المهمشين» مستقبلاً من الصراع المذهبي في عالمنا العربي والإسلامي وعلى الخصوص في الخليج. فوفقاً لهذه الدراسة، انتقل مركز الثقل في العالم العربي من حوض البحر المتوسط إلى المناطق التي فيها خليط من السنّة والشيعة. وقد تنبأت بأنَّ الخضات الناشئة عن صحوة الشيعة ستتفاعل في خلفية العالم الإسلامي مما يشكِّل مجمل العلاقات الدولية.

المشهد اليوم في العالم العربي يمنح هذا الاستشراف المستقبلي صدق توقعه في الاتجاهين السني والشيعي، وذلك استدراج تمليه سياسة دولية كتعديل لتقسيمات سايكس- بيكو تغيب معها الإرادة الوطنية الجامعة. إنَّ ما نشهده في العراق وسورية هو خيانة ثقافية وفكرية لتاريخ الحضارة الإسلامية وتاريخ بغداد ودمشق، فضلاً عن منطلقات ما أوجزنا من بنائنا الثقافي والاجتماعي أجيالاً إثر أجيال كما أنها خيانة لوحدة العالم العربي حين يدير الظهر عن المآسي التي تعصف بأكثر من بلد فيه. فالمذاهب الإسلامية هي السبل الموصلة إلى وحدة الأصول لا إلى تمزقها. أما تداول العهود وتنازع السلطة فقد بقي خارج نهر الحضارة في إنتاجه الثقافي.

كان الإيقاع الثقافي والحضاري واحداً يجتاز حدود الممالك بين بغداد والأندلس بغير استئذان من سلطة، وذلك مسار ألقى على كل مذهب مسؤولية الإمساك بوحدة التراث.

ذلك التراث الذي نقل فيه علماء الفقه والفلسفة من السنة والشيعة بعضهم عن بعض لتستقيم الثوابت الجامعة في كل سعي. ويبقى السبق لكل من سارع في الدفاع عنها لغير مِنَّةٍ ولا استكبار أو استئثار.

ذلك هو معنى الوحدة الثقافية والتراثية التي لا تهمّ المسلمين وحدهم بل كل من انطبع بثقافة البيئة وجغرافيا التفاعل الثقافي التي التأم فيها عطاء الإنسان مسلماً وغير مسلم.

إنهم جميعا ثمرة الحضارة ورسالتها.

ما جرى في العراق وما يجري اليوم في سورية ليس سوى تعرية سياسية، وافتراء على التاريخ والتراث وعلى كامل حضورنا العربي والإسلامي لمصلحة المرجعية الإسرائيلية، أميركياً وروسياً.

وحين تسوّر كل طائفة حدودها النفسية في فضائنا السياسي تصبح رهينة القيود الداهشية من جهة، والاندهاشية في تميزها افتراء على التاريخ في كل طائفة ومذهب من جهة أخرى، وقد رسمت حدودها في تقاسم صحن الدولة لغير سند دستوري.

إنه تبديد للذاكرة والروح لمصلحة العولمة التي تدعونا إلى أن نعيش جميعاً في شروطها باعتبارها حزام مخلفات التاريخ الذي يحزم حطام التقاسم المذهبي والجنسي في وعاء الشمولية، شمولية ترى الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان على قول البحتري.

فالمشهد السياسي اليوم وكأنما قد فاتته اللحظة الحاسمة في بناء وطن جامع، بدأ يستسلم لمسار يفتّت نسق وحدتنا الثقافية والتربوية الغنية بخصائص العمل الجامع العفوي في بيئة مليئة بذكريات تاريخ وحدة المعايير والعادات والتقاليد في أداء المواطن.

تلك نذر تلزمنا في واقعنا اللبناني أن تُدرَك مسؤولياتنا في إطار وطني هو التعبير الأوفى في مرتكزات الصيغة اللبنانية، التي لا بد أن تنمو على سطح اتفاق الطائف وليس تحت سقفه فحسب، إذ الفضاء الواسع يلهم دائماً بوحدة المنطلقات وتطوّرها خارج قيود الاتفاقات وسدود المكونات وحدود الميثاقية التي لا موثق لها في الدستور. فالإخلاص الوطني هو الوقوف على باب الخروج من الأزمات لا الدخول فيها. وذلك يتطلب معايير في تناول المشكلات. معايير إدراكٍ لمصاعبها الحقيقية باعتبارها مصاعب تواجه الجميع في حقل العمل الوطني، لا مصاعب جدالية أضرّت بقدرة سياسينا على استيعاب الحلول والمشكلات سواء في بنية الداخل الإداري والتنظيمي، أو في المدى الإقليمي الثقافي والتاريخي الممتد إلى سورية وما وراءها.

من هنا بات الهوان شاملاً في صعيد السياسة كما في صعيد المجتمع، فما نشهده من الجدل القائم في خضمّ التحضير لانتخابات مقبلة تقذف بمستقبلنا الوطني من تسامي اتفاق الطائف إلى قانون طائفي مرتبك، يشهد لغياب الكفاءة السياسية والأفكار البنّاءة في مستقبل وطني آمن.

وهنا أختم بكلمة المفكّر بيلو في كتابه «الفرد والمجتمع».

«إنَّ الإخلاص الأقدر على تحصيل الإجماع وضمّ العقول والإرادات تحت لواء واحد، هو الذي يبنى على مناهج عقلية وأسس موضوعية تقوم أساساً على تحقيق تفاهم عملي.

ولا يُقصد بهذا التفاهم نوع من الإجماع المجرد بل هو اتفاق حقيقي نحو التعاون يهدف إلى جمع الناس على مثل أعلى يكون واحداً للجميع، لا بمعنى أنه هو بعينه لكل فرد بل بمعنى أنه يدعوهم إلى عمل مشترك».