فيصل العساف

 

 

في خطاباته بخصوص القدس والقضية الفلسطينية، يبدو أردوغان وكأنه يحاكم نفسه! تلك الانتقادات التي ساقها منتقصاً من دول إسلامية لم يسمها، تصلح أن تكون لحظة مراجعة يلوم فيها السيد الرئيس نفسه على وسادة نومه ذات استيقاظ للضمير. هل بلغ السيل الزبى بمناكفات أردوغان؟ نعم، أو هكذا يجب، فالرئيس الآمر الناهي الذي تنغمس بلاده بعلاقات مع الجانب الإسرائيلي لم تسبقه إليها أعتى الحكومات «علمانية» التي تعاقبت على حكم تركيا، ليس من حقه توجيه أصابع الاتهام بالقصور عن بلوغ مرامات المـــسلمين ضد دولة بعينها أو زعيم، لكنها شهوة السلطة وطموح الهيمنة الذي فرش لها خونة الأوطان ســـجادة السيادة الحمراء، بعد أن تلاقت أهدافهم المارقة من الإخلاص إلى حــدود الدم، على جثث المغفلين. لست ديبلوماسياً عليه واجب تنميق الكلمات، وفي الواقع لم يترك لي السيد أردوغان مجالاً كي أقدّر براغماتيته، بعد أن تعدّت تطلعاته سجن بلاده الكبير الذي يقمع أصوات عشرات الآلاف من مخالفيه، لتمتد أياديه الملطخة بالتلون إلى منطقتنا، فلم يسلم من خفافيش ظلامها الدامس سوى أولئك السائرين على الطريق ذاتها.


كنت كتبتُ في مقالات سابقة عن بضاعة اللاجئين السوريين التي يستغلها بدم بارد حتى يجني من الأوروبيين بلايين الدولارات، وعن تضاعف حجم التبادل التجاري والعسكري بين تركيا وإسرائيل في عهده، وعن علاقته المشبوهة بـ «عدو العرب الأول»، أو من يصفها فخامته ببيته الثاني «إيران»، وعن الأسد حين يصبح نعامة بين يدي الرئيس الروسي بوتين! وكتب غيري، حتى تزاحمت الكلمات وهي تتــساءل في استــغراب شديد: لماذا لا يزال هناك من يصدق هذا الرياء السياسي! كان يمكن تبرير تلك المواقف لو أنها أتت بعيداً من الدين الذي يتوشح رداءه، وفي سبيل المصلحة التركية الوطنية، لكـنها في حقيقة الأمر لم تخدم إلا أغراض الرئيــس الذي تقلد تاج الخلافة بأيدي الحاقدين الناقمين على أوطانهم، الساعين إلى الدمار بنية تبوّؤ مقاليد الرياسة، كلٌّ من الطرفين يحاول تحقيق أقصى درجات المصلحة من خلال ركوب الآخر، فيما الضحية شعوب المنطقة وفي مقدمهم السوريون، ودولة مصر التي لم تسلم من مناوشاته منذ أن قال أهلها كلمتهم الفصل في محمد مرسي وزمرته، ودراويش الخليج المتنعمين المتبطرين على ما أفاء الله عليهم من الاستقرار، في محيط متلاطم يمور بالاضطرابات.

ما الذي يريده أردوغان؟ ما من شك في أنه حين أُقفلت في وجهه أبواب الاتحاد الأوروبي، الموصد أمام الديكتاتوريات والعنتريات البالية، توجّه فخامته حاملاً أحلام الزعامة صوب الأرض العربية الخصبة، مرتدياً طاقية النفاق التي تخفي أدران النفعية، في ظل عقول «خاوية» إلا من الاستعداد لبذلها في سبيل من يدفع كثيراً من الوعود الزائفة، تدغدغ أوهام الخلاص الرخيصة، وإن وجدت نفسها ملقاة في آخر المطاف على حجرة صلداء، عارية إلا من الخذلان الذي تعلقه على مشاجب الحكام العرب والمسلمين، بادعاء ظلمهم وقصورهم عن أداء الأدوار المنوطة بهم.

نعيب أردوغان والعيب في الحقيقة على من أتاح له «بيننا» فرصة اللعب على حبالهم. نعيب «إخوان» الإرهاب والعيب في الذين ما زالوا يبصمون على نقائهم وهم يشهدون كذبهم ونكوصهم عن الوعود التي طالما قطعوها على أنفسهم وجعلوها محل انتقادهم لغيرهم، بل تكفيرهم لهم. نحن في مفترق طرق خطر، لا يقبل القسمة على الولاءات، ولا على الانتماء، شعار المرحلة فيه ينبغي أن يكون: من لم يـــكن مع بلــدانــنا المعـــــتدلة الرصينة الساعية إلى استقرارها، فإنه ضدنا.