توفيق السيف
يفخر المسلمون عادة بأن دينهم اختص العلم بمرتبة عالية، كما احترم العقل ومجد «أولي الألباب» وخصهم دون بقية الخلق بجانب من الخطاب القرآني.
لكن لو أردنا الغوص في معنى هذا الكلام، أي مكانة العلم والعقل في حياة المسلم وفي التشريع الديني، فربما نجد أن ما نفخر به لفظياً، نتحاشاه أو حتى ننكره ونرفضه على مستوى العمل.
إذا كنا نقبل بمكانة سامية للعقل وما ينتجه من علم، فالمفترض أن يظهر برهانه في نقاط الاشتباك وموارد التنازع، وليس في تدبيج الكلام. ونقطة الاشتباك الأولى هي تحديد مكانة العقل مقارنة ببقية مصادر التشريع، ثم الموازنة بين دور العقل ودور المصادر الأخرى في وضع أو اختيار الأحكام.
ويذكر أن فقهاء المسلمين متفقون على مصدرين للتشريع هما القرآن والسنة. لكنهم اختلفوا في العقل والإجماع. والميل الغالب يتأرجح بين إنكار كون العقل مصدراً للتشريع، واعتباره ملحقاً بهما، وأن دوره هو الكشف عن الحكم الذي يفترض أن يحويه النص، وليس إصدار الحكم بشكل مستقل عن النص.
الفرق بين الاثنين يتضح في الأمثلة التالية: يأمرنا النص بإقامة حد القتل، ويخبرنا العقل بناء على معطيات علمية بحتة، بأن هذا الحكم لا يؤدي غرضه الرئيسي أي استئصال الجريمة. مثال ثانٍ: يخبرنا النص بالصوم إذا شهد شهود بأنهم رأوا هلال رمضان، ويخبرنا العلم أن الرؤية مستحيلة في ذلك اليوم. مثال ثالث: يخبرنا النص بأن الفائدة على القروض حرام مطلقاً، ويخبرنا العقل بأن الإقراض والاقتراض، سبيل لازمة للنمو الاقتصادي وتحسين معيشة الناس.
الغالبية العظمى ممن واجهوا هذا التعارض، قرروا تقديم ما فهموه من النص على حكم العقل المستقل. ولهم في ذلك حجج معتبرة، كالقول إن الخطأ محتمل من العقل وغير محتمل من النص، فلا يقدم المحتمل على المؤكد. وإن الشارع أمرنا بالرجوع إلى أمره، أي النص. وإن الإنسان يريد إبراء ذمته أمام الله، واتباع كلام الشارع محقق لبراءة الذمة.
هذه الحجج التي يبدو ظاهرها معقولاً، تضعنا - في بعض الأحيان على الأقل - أمام مفارقات غير معقولة. من بينها مثلاً تعارض الحكم الشرعي الاجتهادي مع الواقع، ومن بينها انفصال الحكم عن علته أو حكمته، أو المصلحة المنظورة فيه. في المثال الثالث نعرف أن علة تحريم الفائدة على القرض هي منع الاستغلال. ونعرف أيضاً أن الاستغلال غير مؤكد في كثير من القروض المعاصرة. كما نعرف أن اقتصاد المجتمعات ومعايش الناس لا تقوم إلا بالقرض والاقتراض. هذا أمر واقع يعيشه جميع الناس... فما الذي نختار؟
وفي المثال الثاني: نحن نأتمن الحسابات الفلكية على حياتنا، حين نسافر بالطائرة أو السفينة، ونعتمدها في مختلف جوانب حياتنا. أي أنها ليست مجرد احتمال نظري. فما العمل حين يقول لنا النص: اتركوا هذا الدليل الذي يعتبره كل العقلاء حقيقة موضوعية، واعتمدوا مفاد النص المعارض؟
هذه الأمثلة والعشرات من أمثالها تستدعي مراجعة معمقة لفلسفة التشريع، ولا سيما مكانة العقل ودوره في إنشاء الأحكام الشرعية. صحيح أننا نطيع أمر الله كي نبرئ ذمتنا. لكن الأصح هو أن غرض الدين هو مساعدة المؤمنين به كي يحيوا حياة طيبة. وهذه ليست ممكنة ما لم يكن الحكم الشرعي متصلاً بالواقع ومنبعثاً من حقائقه ومتفاعلاً معها.
التعليقات