FINANCIAL TIMES

صدام ليبرالية ماكرون وشعبوية سالفيني يحسم اتجاه بوصلة أوروبا

&بن هول&&

الأمر أشبه بعملية تحديد الوزن قبل معركة حامية للفوز بالجائزة بين اثنين من الملاكمين الأبطال من العيار الثقيل، وهو وضع يماثل جس النبض.&
على الجانب الأول، هناك ماتيو سالفيني، نائب رئيس الوزراء الإيطالي وزعيم رابطة الشمال الانفصالية اليمينية، وهو مناهض متشدد للتكامل الأوروبي بات الآن حاملًا للواء الجناح اليميني القومي في أوروبا.&
وعلى الجانب الآخر، يوجد إيمانويل ماكرون، أكثر الرؤساء الفرنسيين تأييدا للتكامل الأوروبي منذ جيل، الذي يرفع راية أجندة طموحة لتقوية الاتحاد الأوروبي.
مع عين على الانتخابات البرلمانية الأوروبية في أيار (مايو) الماضي، بدأ سالفيني في تحديد استهداف ماكرون على أنه عدوه اللدود فيها، وفيما يبدو فإن الرئيس الفرنسي قد رمى بالقفاز بما يشير إلى أنه قد قبل التحدي.
قال مسؤول فرنسي بعد أن بدأ سالفيني في تحدي ماكرون: "قبلنا هذا الانقسام السياسي ونعمل على تنظيم الصفوف على ذلك الأساس. نحن الآن ضمن منطق القتال".
لن يكون أي منهما مرشحا للحصول على مقعد في المجلس التشريعي في الاتحاد الأوروبي، ولكنهما يجسدان القوتين اللتين تصطفان لتحديد مستقبل أوروبا، ما يساعد على جعل هذه الانتخابات التي يتم تجاهلها في كثير من الأحيان مشهداً مثيرا للغاية، وربما أحد الأحداث السياسية المحورية عام 2019.
ارتفعت شعبية سالفيني لدى الناخبين الإيطاليين في الوقت الذي واجه فيه بروكسل بموازنة مخالفة للقواعد، قبل أن يوافق الجانبان على هدنة ما قبل عيد الميلاد.&
لقد عملت خطاباته النارية ضد مؤسسات ومسؤولي الاتحاد الأوروبي والهجمات الشديدة ضد الهجرة، على جعله محبوبًا لدى المناهضين للتكامل الأوروبي في جميع أنحاء التكتل، والركيزة المحتملة لائتلاف قومي جديد على صعيد القارة العجوز.

نهاية العالم.. بل المهم نهاية الشهر


قدم ماكرون نفسه على أنه حصن متين ضد قومية حقبة ثلاثينيات القرن العشرين التي تجتاح القارة، فقد شهد تهديدا من التعصب القومي من جانب مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، ليفوز بالرئاسة في العام الماضي، حتى إن طاقته وأفكاره باتت منارة لليبراليين المؤيدين للتكامل الأوروبي.
يبدو الصدام مقنعا بشكل لا يقاوَم. على أن السؤال هو: هل سيرقى إلى مستوى الإعلان؟ يشعر بعض المؤيدين لأوروبا بالقلق من أن المنافسة بين هذين الرجلين غير حكيمة، وأن ماكرون لم يعد في وضع جيد للدخول فيها، فهو لا يحظى بشعبية كبيرة في الداخل، ويواجه برنامجه الإصلاحي مقاومة قوية.
بالنسبة إلى متظاهري السترات الصفراء المناهضين للحكومة، الذين خرجوا إلى الشوارع في جميع أنحاء فرنسا خلال تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وكانون الأول (ديسمبر) الماضي، كان الكلام المفخم من ماكرون حول التهديدات للحضارة، سواء من القومية أو من تغير المناخ، بادياً وكأنه ازدراء لهمومهم الأكثر واقعية.&
تعليق أحد المتظاهرين لخص الموقف على النحو التالي: "تتحدث نخبنا عن نهاية العالم، في حين أننا نتحدث عن نهاية الشهر".
كما عانت مؤهلات ماكرون الأوروبية بشدة، بعد أن خصص 10 مليارات يورو من الإنفاق الإضافي لنزع فتيل الاحتجاجات، وهذا يعني أن فرنسا ستخترق الحد المسموح به من العجز في الاتحاد الأوروبي، البالغ 3 في المائة العام المقبل.
كما يشعر البعض بالقلق من أن استقطاب النقاش في الاتحاد الأوروبي خطأ تكتيكي.
يقول إنريكو ليتا، رئيس الوزراء الإيطالي السابق: "من الخطأ أن يكون هناك انقسام يضع المواطن الأوروبي الليبرالي في مقابل الشعبوي، بالنسبة للذين يدفعون في اتجاه أوروبا.&
إنه خطأ؛ لأنه من الضروري تماما تقسيم ما يسمى المعسكر الشعبوي. إنه معسكر شديد الانقسام، كما أننا نساعدهم من خلال إنشاء هذا الانشقاق. هم متحدون إذا كان لديهم أعداء مشتركون، فحسب".
ربما تكون الانتخابات للبرلمان الأوروبي قد كافحت لجذب الانتباه في الماضي، لكن هذه الانتخابات التي ستعقد في 23 و26 أيار (مايو) المقبل، إذ إن بوسعها أن تكون لها أكبر الآثار منذ عقود.


من الناحية العملية تتقدم قوى اليمين المتطرف أو القومية في كل بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي، وتتحدى أحزاب المؤسسة السياسية التي لا تزال تتبنى، بل في بعض الأحيان بفتور، وجهات النظر السائدة المؤيدة للاتحاد الأوروبي.
وفقًا لمجموعة من استطلاعات الرأي التي جمعها موقع بول أوف بولز. يو Pollofpolls.eu، سترتفع نسبة رابطة سالفيني من 6 في المائة من الأصوات وخمسة مقاعد لإيطاليا في البرلمان الأوروبي عام 2014، إلى 33 في المائة و29 مقعدًا. اليمين المتطرف في فرنسا في سبيله إلى الفوز بـ 21 في المائة، ما دفع حزب الوسط الذي يقوده ماكرون؛ أي الجمهورية إلى الأمام إلى احتلال المركز الثاني، وإعطاء الفرصة للوبن لتعويض مكانتها، بعد حملة انتخابية رئاسية مخيبة للآمال عام 2017.
من شبه المؤكد أن حزب فيدسز اليميني التابع لفيكتور أوربان سيؤكد هيمنته في المجر. ويبدو من المرجح أن حصة حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للتكامل الأوروبي، ستتضاعف من 7 في المائة وسبعة مقاعد.&
ومن المتوقع أن يفوز حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا بـ 41 في المائة و24 مقعدا، من 32 في المائة و19 مقعدا.
ومع ذلك، فإن المكاسب المشتركة للأحزاب اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي، قد تكون أصغر مما يود الذين يهتفون بحياتها، ويتبنون برامجها المتطرفة المعروفة.
تشير إحدى الدراسات التي أجراها معهد جاك ديلور، وهي مؤسسة فكرية مقرها باريس، إلى أنها لن تفوز إلا بـ 25 في المائة من المقاعد البالغ عددها 705 مقاعد، ما يشكل ارتفاعاً عن نسبتها الحالية البالغة 20 في المائة.&
أحد أسباب ذلك هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيؤدي إلى غياب أعضاء البرلمان الأوروبي المناهضين للتكامل الأوروبي في بريطانيا.&
والسبب الآخر هو أن اليمين المتطرف في فرنسا وحزب فيدسز المجري كانا في الأصل، في موقف قوي ضمن البرلمان الأوروبي المنتهية ولايته.
من غير المرجح أن يسيطر الوطنيون والشعبويون على البرلمان الأوروبي، لكنهم لا يزالون قادرين على تعطيل عمله ووضع أنفسهم في موقع النفوذ، خصوصا في شأن الترشيحات لشغل أعلى المناصب في هياكل الاتحاد الأوروبي.&
على مدار 25 عامًا، عملت مجموعات يسار الوسط ومجموعات يمين الوسط معا للسيطرة على السلطة التشريعية، وصنع سياسات الاتحاد الأوروبي على نطاق أوسع، من خلال إنشاء تسويات بشأن السياسات المتبعة وتقاسم المناصب القيادية.
هذه المرة يمكن أن تتراجع قبضتها، نظراً لتراجع مكانة الأحزاب الاشتراكية في أوروبا، والضغط من اليمين المتطرف على المحافظين من التيار السائد في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وفي الآونة الأخيرة، إسبانيا، أيضاً.
وخلصت دراسة معهد جاك ديلور إلى أنه "حتى إن كان احتمال نشوء أغلبية معادية للتكامل الأوروبي، أو قادرة على تغيير البرنامج الحالي، فإنها باتت الآن أقل احتمالا مما يُعتقَد، وعليه سيكون من الصعب بناء مجموعات أغلبية في المستقبل، وقد تتغير العلاقات بين المؤسسات".

شرط يقوي اليمين المتطرف


قوة اليمين المتطرف بعد انتخابات أيار (مايو) المقبل، ستعتمد إلى حد كبير على ما إذا كانت أحزاب من 27 بلدا يمكن أن تتجمع في كتلة برلمانية قوية - كنوع من القومية الدولية أو القارية، على الأقل.
يقول ماثيو جودوين، أستاذ السياسة في جامعة كِنت: "من الناحية التاريخية، كان القوميون والشعبيون يناضلون دوما لبناء تحالفات دائمة ومتماسكة على المستوى الأوروبي"، على الرغم من أنه يلاحظ أن مسألة "اندماج المهاجرين والعداء تجاه أوروبا" في الخطاب المناهض للتكامل الأوروبي، أعطاهم فكرة مشتركة قوية إضافية.
في البرلمان الحالي، تنقسم أحزاب الجناح اليميني القومية بين أربع مجموعات، بما في ذلك حزب "الشعب الأوروبي" من التيار السائد، الذي ينتمي إليه حزب فيدسز المجري برئاسة أوربان.&
إن الكتلة تمثل امتداداً على نطاق واسع تشمل وجهات نظر من المحافظين في شأن السوق الحرة، الذين يريدون قدرا أقل من الروتين الحكومي، وكذلك الخصوم من اليمين المتطرف المعارض للاتحاد الأوروبي واليورو.
مشكلة القوميين الأوروبيين هي أن مصالحهم الوطنية يغلب عليها الاصطدام. استفاد سالفيني من الغضب الإيطالي بسبب عدم مساعدة الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الهجرة غير الشرعية، ومع ذلك فإن أوربان الزعيم المجري أو حزب الحرية النمساوي، يعارضان بقوة تقديم مثل هذه المساعدة.&
البعض، مثل الأحزاب الفرنسية والنمساوية اليمينية المتطرفة، يريدون علاقات أوثق مع روسيا، في حين أن حزب القانون والعدالة في بولندا يعارض ذلك معارضة شديدة.
بالنسبة للذين يرغبون في بناء تحالف يميني متشدد، فإن سالفيني هو أكبر صيد. من المحتمل أن يكون أعضاء البرلمان الأوروبي التابعون له هم المجموعة الأكثر قوة في أي مجموعة قومية.&


على أنه يبقي خياراته مفتوحة إلى ما بعد يوم الانتخابات. في الوقت الحالي، يبدو أن استراتيجيته الأوروبية تثير توترات كافية مع بروكسل، على نحو يلقى القبول لدى الإيطاليين المناهضين للتكامل الأوروبي، دون إثارة الأعصاب في الأسواق المالية.
تراجعت روما أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي من المواجهة مع المفوضية الأوروبية حول خطط ميزانيتها لعام 2019، حيث وافقت على تقليص التزامات الإنفاق، ووضعت ضمانات إذا لم تصل الإيرادات إلى المستوى المتوقع.&
بيد أن من اللافت أيضاً، أن بروكسل قد تراجعت أيضا، وكأن الطرفين قد اتفقا بلا اتفاق على الالتقاء في الوسط، بصيغة تنازل من هنا مقابل تنازل من هناك، ليربح الطرفان.
هل ضرب سالفيني بأقل مما يستطيع؟ لا، كما تقول ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية في روما، مضيفة أنه سيكون مسرورا لو أن بروكسل أطلقت إجراءات الانتهاك ضد إيطاليا.&
وتضيف: "يمكنه أن يدّور الأمور لمصلحته في كلتا الحالتين. سيكون قد أربك المفوضية المتشددة من جهة، ويُظهِرها على أنها دليل على شر بروكسل.&
ويمكنه الآن أن يتكسب من إطلاق حملة إعلامية تُظهِر مفوضية ناعمة، كدليل على أن تكتيكاته المتشددة التي لا ترحم، تؤتي ثمارها".&
تقول توتشي إن سالفيني يستغل أيضاً ارتفاعا في المشاعر المضادة للفرنسيين في إيطاليا، ينبع من "افتقار إلى التضامن يقترن بالنفاق" خلال أزمة المهاجرين 2015-2016.&
وتضيف: "أصبح ماكرون فجأة مصدراً لكل الشرور" بالنسبة لكثيرين في إيطاليا.


يحث البعض، مثل ليتا، الرئيس الفرنسي على تجاهل التحدي الذي صدر من زعيم رابطة الشمال سالفيني.
يقول ليتا: "سالفيني هو الذي يريد هذه المبارزة، حيث يهاجم دائما ماكرون وفرنسا والأجندة الفرنسية. إن ماكرون مثالي له كعدو. هذا هو السبب في أنه من المعقول لماكرون أن يتجنب منح سالفيني فرصة لعب دور خصمه الرئيس. في مقابل تجاهل الإيطالي، يجب على ماكرون التركيز على لوبن".
عدّل ماكرون رسالته الآن، فهو الآن يتجنب التركيز على خصمه الإيطالي، كأنما يعمل بالنصيحة السابقة.&
وهو أيضا يركز أكثر على الحاجة إلى أوروبا أقوى و"ذات سيادة"، ومن هنا تأتي دعوته لجيش أوروبي وانتقاده للاتحاد الأوروبي لكونه "مفرطا في الليبرالية".
يقول بيير ألكساندر أنجليد، عضو البرلمان عن حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" وهو من بين استراتيجيي حملة عام 2019: "ماتيو سالفيني هو أحد أعراض مجتمع لا يعرف إلى أين هو ذاهب. أفضل طريقة للاستجابة له ولجميع القوميين الآخرين: هي الإتيان بمقترحات لتقوية الاتحاد الأوروبي".&
وأشار إلى خطاب الرئيس في جامعة السوربون العام الماضي، الذي تضمن نحو 50 فكرة منعشة لإصلاح أوروبا، وكثير منها تم الاتفاق عليه الآن.