&سلطان البازعي&

لا بد من الاعتراف بداية أنه من أسهل الأشياء أن تقوم بالتنظير وأنت في منطقة الراحة الخاصة بك، فنرى الكثيرين يبادرون في مجالسهم واستراحاتهم لانتقاد أداء من هم في المناصب العامة، وخاصة الوزراء، ولا يكتفي البعض بالانتقاد وتوجيه اللوم، ولكنهم يطرحون – بعلم أو من دون علم أحياناً كثيرة - خططاً وسياسات بديلة لتلك التي اتخذها الوزراء، وهم لا يستثنون أحداً من وزير الخارجية إلى وزير الأوقاف مروراً بوزراء المالية والنفط والتعليم والصحة والإعلام... إلخ، كل بحسب اهتمامه المعيشي، لكن هذه الأطروحات سرعان ما تتبدد عند تعرضها للاختبار، وأوضح الأمثلة ظهرت عند مثقفين وأكاديميين كانت لهم أطروحات إصلاحية منشورة، وعندما تقلدوا الوزارة تبخرت الآراء أو أنهم لم يتمكنوا من تنفيذها لأسباب متعددة سياسية كانت أم بيروقراطية، وفي بعض الأحيان فإن سلطة الكرسي الوزاري تحدث خللاً في التركيبة النفسية تؤثر على قدرة الجالس عليه على رؤية الأشياء بالوضوح نفسه.


والحقيقة أنني أنظر بإشفاق إلى كل من يتولى مهمات بعض الوزارات وهي تحديداً: الإعلام والصحة والتعليم، لذا أرجو أن تتحملوا مني ممارستي حقي كمواطن في الانتقاد والتنظير في هذه الرحلة، التي تشبه أحلام اليقظة، أمارس فيها دور الوزير، وسأختار وزارة التعليم تحديداً لأسباب كثيرة، منها أن هذه الوزارة بقيت عصية على الإصلاح على رغم ما أنفق عليها من أرقام فلكية ونسب عالية من موازنات الدولة ومن الدخل القومي على مر العقود الماضية، وعلى رغم أن من توالى على مقعدها هم من خيرة رجال الوطن علماً وخبرة ومكانة، لكنها – أي وزارة التعليم - مصابة كما يبدو بـ«عين ما صلت على النبي» جعلتها وعلى رغم تغيير مبناها غير قادرة على تغيير معناها.

ولو حدث أنني ابتليت بهذه الوزارة – لا سمح الله - فإنني سأطلب مجموعة من الصلاحيات التي تسمح لي باتخاذ بعض القرارات والإجراءات الثورية، كما سأطالب بإبقائي في منصبي المدة الكافية لظهور أول النتائج العملية لخططي الجديدة.

وأول هذه القرارات والإجراءات أنني سأهجر المبنى الضخم الواقع على طريق الملك عبدالله بوكلائه والوكلاء المساعدين ومديري العموم والخبراء والمستشارين ورؤساء الأقسام ومديري الحركة والصادر والوارد وصبابي القهوة والشاي، وأنتقل إلى مكتب صغير في منطقة أعمال حديثة وحيوية (حي السفارات مثلاً) أنا ومستشاري الأول وعدد محدود من الطاقم الإداري، الذي تكون مهمته توصيل التعليمات للمبنى الرئيس الذي يديره نائب الوزير.

سيتم تحديد صلاحيات جهاز الوزارة العتيد بالمراحل التي تلي الصف الثالث الابتدائي، وتتقلص صلاحياتهم في كل سنة مع تقدم تطبيق الخطة الجديدة ووصولها إلى المرحلة الثانوية، وحتى تنتهي بتقاعد جميع الموظفين القدامى ونمو جهاز جديد يتبع لمكتبي ويتفرع منه يكون خالياً من عدوى التفكير القديم، ولن أسمح بانتقال هذا الجهاز إلى المبنى القديم إلا بعد التأكد من خلوه تماماً من أي أفكار تقليدية وغير إبداعية، هذا إن لم أدرس جدوى استثمار المبنى بتحويله إلى فندق يسهم في تطوير السياحة وتلبية الطلب المتزايد على الغرف الفندقية في العاصمة.

أما المستشار الذي سيكون على يميني وربما يشاركني غرفة المكتب نفسها، فإنني سأنافس جامعة هارفارد على استقطابه وهو أستاذ زائر فيها حالياً، وهو الفنلندي الدكتور باسي سالبرغ، وهو يعد الأب الروحي للثورة التعليمية في فنلندا، البلد الصغير في شمال أوروبا الذي يعيش من دون موارد طبيعية غير الأخشاب وهواتف نوكيا والتعليم، هذا البلد الذي يحتل منذ عقدين تقريباً المرتبة الأولى كأفضل نظام تعليمي في العالم، ويحتل طلابه منذ العام 2000 المرتبة الأولى في اختبارات القياس.

سأكلف سالبرغ بمهمة رئيسة، وهي تخليصنا كما خلص بلاده من «جراثيم التعليم»، وهذا مصطلح ابتكره الفنلنديون في إشارة إلى كلمة GERM بالإنكليزية، وهي اختصار للأحرف الأولى من عبارة «الحركة العالمية لإصلاح التعليم»، وسأنبهه إلى أنه ربما يجد عندنا جراثيم أقدم من جراثيم هذه الحركة التي حاربها، وهو صاحب النظرية التي تقول إن هذه الحركة أفسدت التعليم في العالم بالعدوى من حيث أرادت إصلاحه.

كنت سمعت أخباراً متفرقة عن نجاح التجربة التعليمية في فنلندا، وشاهدت فيلماً قصيراً قدمه المخرج الأميركي الشهير مايكل مور، الذي اشتهر بنقد التجربة الأميركية في السياسة والاقتصاد وحتى في التعليم، وكان منبهراً كيف أن طلاب المدارس الابتدائية في فنلندا يدرسون ساعات أقل من أي مكان في العالم، حيث معدل الدراسة لا يتجاوز 4 ساعات يومياً، وأنهم غير مطلوب منهم أي واجبات منزلية، ولا يخضعون لاختبارات تقييمية من أي نوع، على اعتبار أن مهمة المدرسة هي مساعدة الطالب على التفكير وليس التلقين، وأنها تعترف بالفروقات الفردية لكل طالب، وأن مهمة المدرس هي مساعدة كل طالب على حدة لتجاوز الصعوبات، وأن المدرس يلتزم بتدريس الصف نفسه خمس أو ست سنوات حتى يعرفهم أكثر من والديهم أحياناً.

وقرأت مقالةً مركزةً لخصت التجربة الفنلندية كتبها أحمد المشاري في موقع «منشور»، قال فيها إن مواد التدريس الفاعلة في فنلندا تركز على تربية الطالب في الجوانب التالية: التفكير الإبداعي، الضمير الأخلاقي، المهارات التواصلية، والموهبة الخاصة.

وقال: «إن هذه موضوعات دراسية لا تتطلب استظهار مصطلحات جامدة هو في غنى عنها الآن، ولا تستلزم حفظ نصوص مطولة لم يحفظها كُتَّابها الأصليون أساساً، ولم يطلبوا من قرائهم فعل ذلك». وأن «إلزام النشء بهذه المعارف المعزولة سبب كافٍ لنفورهم من التخصص بها مستقبلًا، وقدرة الطالب على إبداع أفكار جديدة أهم من قدرته على تلقي معلومات جديدة، وتعليمه التفكير الابتكاري لا يقل عن أهمية تعلمه القراءة والكتابة والحساب». وحاولت أن أعصر ذاكرتي لاسترجاع نصاب الزكاة في الجمال والبقر، أو استحضار معلقة عمرو بن كلثوم.

فنلندا نجحت في الانتقال من اقتصاد يعتمد على الموارد إلى اقتصاد يعتمد على الابتكار، ونحن نريد ذلك أيضاً ولذلك احتفينا برؤية 2030، وهذا سبب كافٍ لقراري «الافتراضي» بإغلاق وزارة التعليم.