&أمين الزاوي

شكل الإسلام الأمازيغي مواجهة حقيقية للإسلام السلفي، وفي هذه المواجهة أدرك الإسلام الأمازيغي مبكرا بأنه سيكون معرضا للمحو إذا ما تنازل عن الخصوصية الهوياتية الثقافية واللغوية.

&

توطين العقيدة الإسلامية بألوان أمازيغية محلية

هذا لا يحدث إلا في بلاد الأمازيغ، في ظل إسلام أمازيغي متميز ومختلف عن الإسلام السياسي أو الجهادي أو الإخواني.

أن يحتضن مسجد تقام فيه الصلوات الخمس ويرفع فيه الأذان، عرضا سينمائيا أمام جمهور فاق الخمسمئة متفرج، أن يحدث هذا في زمن الفتاوى التي تحرم الفن السينمائي والموسيقى والفن التشكيلي وغيرها، فلن يكون ذلك سوى في رحاب إسلام أمازيغي متسامح ومختلف.

في قرية إيمزواغ من قرى بلدية تيمزريت الموجودة على أعالي ولاية بجاية، وعشية الاحتفال بعيد رأس السنة الأمازيغية الموافقة للثاني عشر من شهر يناير، التقى الأهالي في قاعة من قاعات مسجد القرية، لا للصلاة ولكن للاستمتاع بمشاهدة عرض سينمائي لفيلم “أعدك” للمخرج محمد يرقي، والذي حصل على جوائز عديدة في الجزائر وفي بغداد.

&الفيلم عبارة عن حكاية شاب اسمه عليلي مع أخته باية التي ضحت بكل شيء لأجله… من الوجوه التي تلعب في الفيلم المغني جمال علام الذي فقدته الساحة الفنية قبل بضعة شهور، كانت القاعة غاصة وحين حل موعد الأذان والجميع غارقون في العرض، وبموقف حضاري كبير، رفض المؤذن استعمال مكبر الصوت في رفع الأذان حتى لا يفسد الفرجة على الجمهور.

وللتذكير ففي هذه القاعة الملحقة بالمسجد، تقام حفلات الموسيقى وتعرض فيها المسرحيات، كما من المنتظر افتتاح مكتبة متعددة الوسائط “ميدياتيك” بأحد طوابق المسجد، ويذكر الكثير من سكان القرية كيف أنهم طردوا أحد الأئمة السلفيين الذي نزل بقريتهم، وأراد أن يغير من عادات سلوكهم في ظل إسلامهم الأمازيغي، حيث يتجاور الدين والفن دون خصام ولا تصادم.

عاش المجتمع الأمازيغي سنوات التعريب شبه "فتوحات إسلامية سياسية جديدة"، لأن العملية لم يكن يهمها تعليم العربية بل كان الهدف أيضا وباسم التعريب ضرب الإسلام الأمازيغي

&لعل ترجمة ابن تومرت (1080-1130) للقرآن إلى الأمازيغية، كما تتحدث عن ذلك بعض كتب التاريخ والسير، في زمن كانت فيه ترجمة النص القرآني تدخل في باب الكفر، دليل على البحث المبكر عن توطين العقيدة الإسلامية بألوان أمازيغية محلية، أي توطين العقيدة دون التنازل عن اللغة وعن العادات والتقاليد الحضارية والاجتماعية والأخلاقية والفنية، التي كانت سائدة لدى الأمة الأمازيغية منذ قرون.

ولا يزال الإسلام الأمازيغي يختلف عن غيره، في مفهوم التدين وفي سلوك المتدين، وعلاقة هذا الأخير بالآخر. فالإسلام الأمازيغي إسلام يقوم في غالبيته على التصوف الذي احتضنته الزوايا المنتشرة بكثرة في منطقة المغرب الأمازيغي، أو ما يسمى بـ”تامازغا”، ويتضح ذلك جليا في منطقة القبائل الصغرى والكبرى بالجزائر.

واعتماد منهج الإسلام التصوفي لدى الأمازيغ، هو محاولة منهم لدفع العقيدة نحو السمو ونحو العلاقة الفردية بين الفرد والإله، وإبقاء تدبير الشأن الحياتي الفلاحي والتجاري والاقتصادي والاجتماعي متماهيا مع العادات والتقاليد الحضارية العريقة التي عرفها المجتمع الأمازيغي. وبهذا التوطين العقدي استطاع الإسلام الأمازيغي أن يوازن ما بين الروحاني والاجتماعي، بين التعبدي والسلوكي، بين اللاهوتي والناسوتي.

ولعل تمركز الإسلام الأمازيغي في الزوايا واقتصاره بشكل واضح على الروحانيات والتعبد، هو ما جعل الأمازيغ بشكل عام يحافظون على فنونهم، وطرق عيشهم إلى حد كبير، على الرغم من كل محاولات التعريب التي كانت بالأساس عملية “خونجة” سياسية.

لقد عاش المجتمع الأمازيغي سنوات التعريب شبه “فتوحات إسلامية سياسية جديدة”، لأن العملية لم يكن يهمها تعليم العربية بل كان الهدف أيضا وباسم التعريب ضرب الإسلام الأمازيغي، وتعويضه بإسلام الإخوان المسلمين.

لقد شكل الإسلام الأمازيغي مواجهة حقيقية للإسلام السلفي والإخواني، وفي هذه المواجهة أدرك الإسلام الأمازيغي مبكرا بأنه سيكون معرضا للمحو والمسخ إذا ما تنازل عن الخصوصية الهوياتية الثقافية واللغوية أمام زحف إسلام السلفية والسيف.

التمسك بالعادات في ظل إسلام أمازيغي

واليوم حين نرى مسجدا يحمل اسم البروفيسور محمد أركون (1928-2010) ببلاد القبائل ببلدية آيت يني، حيث قرية تاوريرت ميمون التي أنجبت أيضا الكاتب والمناضل الكبير مولود معمري (1917-1989)، فهذا يدل على خصوصية الإسلام الأمازيغي. ويحمل مسجد اسم البروفيسور محمد أركون، وهو المفكر والفيلسوف العقلاني الذي حارب السلفية وحارب الجمود ودعا إلى الاجتهاد المعاصر، هو الذي تم تكفيره من قبل الإخوان المسلمين وعلى لسان أحد رؤوسهم وهو الشيخ محمد الغزالي، بل إن هذا الأخير تجرأ ذات مرة بأن طرد محمد أركون من واحد من المؤتمرات الفكرية الإسلامية التي انعقدت بالجزائر العاصمة.

حين نقول إن الإسلام الأمازيغي يتميز بالتسامح على المستوى الشعبي العام، هذا لا يعني أن المنطقة قد سلمت من الدين السلفي، بل إن بعض النخب المنتمية إلى هذا المجتمع الأمازيغي قد أصبحت سلفية وأخرى انتمت إلى تنظيمات إرهابية، ولكنها تعد شاذة في مجتمع يحترم من جهة الدين ويجعله فرديا بين العبد والإله، و يحترم تقاليد الأمة الأمازيغية وحضارتها ولغتها.

حين يحدث هذا ولا يحدث هذا في أي مكان آخر، فاعلم بأننا أمام إسلام أمازيغي بسلوكات تختلف عن الدين البدوي والدين الصحراوي، دين السيف ومعاداة الموسيقى والسينما.

هذه المسافة التي أسس لها الإسلام الأمازيغي ما بين العبادة من جهة وبين تدبير الشأن العام في المجتمع من جهة ثانية، هي التي تجعل ثقافة العلمانية تنتشر بشكل واضح في هذه المنطقة، حيث يتم الفصل بين الدين والمؤسسات، بين العبادة والمواطنة.

&