عدنان كريمة

«الويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر». هذا ما كتبه أديب لبنان الكبير الراحل جبران خليل جبران في كتابه «حديقة النبي»، ويردده اللبنانيون في أحاديثهم اليومية، حتى أصبحت هذه «الحكمة» على كل لسان. ولكنها بقيت في إطار التندر بها، ب «الأقوال»، من دون ترجمتها إلى «أفعال»، حتى ابتلوا باقتصاد، لا يوفر لهم حاجات معيشتهم واستهلاكهم، وجعلهم مرتهنين إلى الدول الصناعية التي تستنزف ثرواتهم ومدخراتهم من العملات الأجنبية، وباتوا في حالة طلب دائم على الدولار الأميركي لتأمين ضرورات حياتهم.
لا يُعقل أن يعيش بلد فوق قدرته المالية، كما يفعله لبنان، إنه انتحار مالي يقوم به من خلال الكم الهائل من السلع والبضائع التي يستوردها. وبلغة الأرقام، سجل الميزان التجاري اللبناني عجزاً تجاوز ال 17 مليار دولار في العام الماضي، إذ بلغت فاتورة الاستيراد نحو 20 مليار دولار، مقابل فقط 3 مليارات للصادرات. ويمثل هذا العجز المزمن، السمة الأبرز للنموذج الاقتصادي اللبناني القائم، وقد سجل المزيد من التدهور منذ اندلاع الصراع في سوريا، بسبب إقفال كافة المعابر البرية نحو الأردن والعراق، ودول الخليج التي تعتبر الأسواق الرئيسة للصادرات اللبنانية. وبلغ العجز خلال 8 سنوات (2011 – 2018) نحو 119 مليار دولار، أي الفرق بين فاتورة الاستيراد البالغة 155 مليار دولار، وقيمة الصادرات فقط 36 مليار دولار. ومن شأن استمرار هذا التدهور، أن يسبب كوارث مالية واقتصادية، خصوصاً أنه يوازي 33 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويفرض رفع الاحتياطي من العملات الأجنبية، لتجنب أي انخفاض في قيمة الليرة.


النظرية الاقتصادية تؤكد أنه عندما يوجد عجز في الميزان التجاري، يتوجب على البلد المعني الاقتراض لتغطية استيراده، وبالتالي هناك استحالة على لبنان استمرارية هذا النحو، تحت طائلة الغوص في دين لن يستطيع سده في المستقبل، خصوصاً أن الاستيراد يجعل منه بلداً متعلقاً من الناحية السياسية والاقتصادية بالدول الأخرى، ما يهدد علاقاته الدولية، ويؤثر على سياسته الخارجية.


لقد سبق للبنان أن استفاد من فائض ميزان المدفوعات، حتى بلغ نحو 7,9 مليار دولار عام 2009، وكان يغطي العجز المتراكم في الميزان التجاري منذ الاستقلال، ولكن هذا الفائض تراجع إلى 3,3 مليار دولار عام 2010، وظهر الخطر الأكبر عندما تحول في العام 2011 إلى عجز بلغ 1,9 مليار دولار، واستمر في ارتفاعه حتى وصل في العام الماضي إلى 4,8 مليار دولار، وفق حسابات البنك المركزي، وهو أعلى عجز مسجل في تاريخه (تحويلات اللبنانيين في الخارج والبالغة نحو 8 مليارات دولار سنوياً، منها 5 مليارات من دول الخليج، تسهم بدعمه)، وحيال هذا العجز الكبير، تم رفع مستوى الفوائد، ما ينعكس بدوره على زيادة كلفة خدمة الدين العام.
إضافة إلى تسجيلها ضعف النمو الاقتصادي، تركز التقارير الدولية على تطور المؤشرات المرتبطة بعلاقات لبنان الخارجية، السلعية والمالية والنقدية، وأهمها رصد ميزان المدفوعات الجارية، كونه يشكل حصيلة علاقات أي بلد، وتقييمها سلباً أم إيجاباً، وقد تبين أنه في حالة لبنان «سلبي جداً»، لذلك يتطلب من الحكومة التي ترفع شعار «إلى العمل» من أجل استعادة الثقة، معالجة الضعف البنيوي الكامن في الاقتصاد اللبناني والتركيز على الإجراءات التي تزيد من إنتاجيته، بتوجيه الاستثمارات بشكل خاص نحو قطاعات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، وهي قادرة على تحقيق النمو المستدام، بالإضافة إلى الخطة الإصلاحية الضرورية للقطاع العام.&