&عبدالله الميموني&&

عندما ذاق العالم ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية أرسى قواعد ومبادئ لحفظ السّلم العالمي، وجاءت قبل ذلك وبعده قوانين إنسانية كثيرة توافق عليها العقلاء

بعد انتشار خبر مأساة استشهاد (53) مسلما وإصابة العشرات في الحادث الإجرامي في مسجد في نيوزيلندا عادت بي الذاكرة إلى قصة كنت قرأتها في كتاب المستشرق (ستانلي) عن الأندلس - القصة مفادها: أنه ظهر في الأندلس قبل مئات السنين بعض المسيحيين المتعصبين الانتحاريين، يقول المستشرق ستانلي معلقا في كتابه [قصة العرب في إسبانيا]: (إن حمى الموت في سبيل المسيحية بدأت تظهر في كل مكان)؟. ويضيف: (كان من المحزن المستدر للرحمة حقا أن ترى رجالا يقذفون بأرواحهم وأرواح غيرهم في سبيل حلم كاذب).&
هذا ماذكره المؤرخ الذي -عُرف بإنصافه ودفاعه عن الحضارة العربية في الأندلس- كان خبرا عن فترة من الفترات إبان الحكم الإسلامي للأندلس (إسبانيا).&
إن نظرة سريعة إلى التاريخ تعلمنا أن التعصب كان ولم يزل موجودا عند كثير من أصحاب الديانات والأفكار والمذاهب، وأنه يأخذ ألوانا متعددة من أقساها وأشدها فتكا: الإقدام على قتل الأبرياء والنساء والأطفال بشهية مفتوحة لرؤية الدماء وبلا تحرج من ارتكاب أقسى الفظائع مع الاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل تحقيق ذلك؟!. إنهم يقدمون على أبشع صور القتل نصرة لمعتقداتهم وأفكارهم، وذلك قاسم مشترك بين المتعصبين من كل ملّة ونحلة.


وفي عصر العولمة سهلت بعض أنواع الإعلام البيئة الخصبة لنشر أفكار المتعصبين دينيا وفكريا، وأعطتهم الفرص لجمع الأتباع ونشر الأفكار المتطرفة وتشجيعها، وكل ذلك على حساب مبادئ الحق والعدل والرحمة والتعايش السلمي بين الأمم والشعوب.
وسيكون لهذا أثر بالغ الضرر على الإنسانية كلها إن لم يتم تدارك ذلك، ولن يكون أحد في مأمن، فالجميع في النهاية سيخسر، فالعالم اليوم يمتلك أسلحة نووية وبيولوجية ونارية غاية في قوة التدمير وفي التطور، وهي بأيدي شعوب وأمم مختلفة العقائد والمشارب والتوجهات، وفي جميع الأمم والشعوب المتعصب والمتهور، ومتى ما بدأت نيران التعصب بالتهام العقول ودفن الحكمة وإعطاء الفرصة للأحقاد أن تتحكم، فالذي ينتظر البشرية من الدمار والمآسي لا يمكن بحال تصوره، فالحيوان البهيمي المتوحش مارد موجود في دواخل كثير من النفوس البشرية ينتظر طريقه للنهوض متى غذاه خطاب الكراهية والتعصب المقيت، وسوف يصعب إرجاعه إلى وضعه الطبيعي.&
لقد بات العالم مذهولا من حوادث القتل المروعة كمثل هذا الحادث الإرهابي الذي قُتل فيه مسلمون آمنون ليسوا بمحاربين ولا في أرض حرب، بل في أرض سِلْم وأمان على يدي إرهابي متطرف وبمرأى ومسمع من العالم المتحضر.&
نعم لقد كان من المطمئن اتفاق كلمة عقلاء العالم على إنكار هذا وشجبه، ولكن هذا ليس كافيا لوقف التدهور الأخلاقي وكبح جماح المتعصبين، فهذا الحدث المروع سلّط الحدث سلط الضوء على قاسم آخر من القواسم المشتركة بين الإرهابيين، فكل منهم يجتر التاريخ من زاويته ويستشهد به من منصته الفكرية، ومن الأهداف المشتركة لهم إيجاد مبررات وحجج لإقناع أتباعهم ولكسب مزيد من المؤيدين، والواقع يقول إنهم يكسبون مزيدا من الأتباع على حساب مبادئ الحضارة الإنسانية والسلم العالمي ومبادئ الرحمة والعدل، وقد يحتج بعضهم بوجود مظالم حقيقية أو متوهمة يتخذونها دعايات لجذب الأتباع ولتبرير سلوكهم المتوحش.


والعالم إن لم يتحد ضد مظاهر التطرف والإرهاب بكافة أشكاله سيقع فريسة للإرهاب، والكيل بمكيالين سيؤدي حتما لتفاقم المخاطر وسيعطي المبررات للغلاة والمتطرفين مهما كان توجههم، فلا يُقبل أن يحارب العالم الإرهاب بناء على انتماء ديني لدى بعض المتطرفين، بل ينبغي أن يحاربه وفق اتفاقيات ومبادئ إنسانية مشتركة، وليكن هذا من باب المعاهدات التي يجب على الجميع الوفاء بها، وهي ملزمة للجميع، أو فليكن من باب تحقيق المصالح الضرورية المشتركة للجميع.&
فالعدل والمصالح المشتركة تقتضي أن يحاسب الجميع على مبدأ عادل لكي يكون العالم بمأمن من تنامي جيوش المتعصبين المتوحشين أيّاً كانوا ومن حيث ما كانوا.
وعندما ذاق العالم ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية أرسى قواعد ومبادئ لحفظ السّلم العالمي، وجاءت قبل ذلك وبعده قوانين إنسانية كثيرة توافق عليها العقلاء وفي كثير منها منافع للأرض ولساكنيها. إن تنامي الفقر والأزمات الاقتصادية الخانقة وانتشار الحروب المدمرة سوف يوفر مزيدا من البيئات الحاضنة والمغذية للتطرف والغلو.
والله تعالى يحب المصلحين ويكره المفسدين، وكل إفساد في الأرض فالله تعالى ينهى عنه: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا). [ سورة الأعراف: آية: 56]. وكل اتفاق يؤدّي لإصلاح الأرض ولمنع الإفساد فيها فالإسلام يأمر به، وكل دين سماوي يدعو إليه فالديانات السماوية وغيرها تقبح قتل الأبرياء وقتل الأطفال.


والتبادل التجاري والمعرفي والتواصل الإنساني في عصرنا ليس له مثيل في جميع العصور البشرية الغابرة، وهذا التواصل الكبير فرصة للتحاور والتعاون، وهو بالنسبة للمسلمين فرصة ثمينة للدعوة إلى الله بالحكمة وبالتي هي أحسن.
وإن الإيمان الصحيح ليجعل المؤمن الصادق محبا لما يحبه الله من العدل ومن نشر السلام للبشرية.
لقد أصبح من الواضح أن العالم اليوم أمام تحدٍّ حقيقي لمواجهة دعوات الصدام الحضاري المتنامية. وفي الطبائع البشرية أنواع مختلفة بعضها قد لا يردعه عن ارتكاب الجريمة إلا الخوف من العقاب والمحاسبة، ومتى كانت المحاسبة سريعة ودقيقة وعادلة أدى ذلك إلى تقليل المخاطر على المجتمعات الإنسانية.

&