عبد الله السناوي

باختلاف الأزمان والأوطان والتجارب لم يكن ممكناً محو الإرث القديم بحمولاته الثقافية والاجتماعية، ونسق قيمه، ومعاملاته الإدارية.
لا الثورة الفرنسية رغم المقاصل التي عُلقت، والدماء التي أريقت نجحت في استئصال كل ما يمت إلى الماضي في بنية مجتمعها.
حسب «الكسيس دي توكفيل» أحد أهم مؤرخي الثورة الفرنسية، فإن المحو الكامل وهم كامل، أثبت فرضيته بدراسات معمقة في أوراق ومعاملات ما قبل الثورة وما بعدها.
ولا الثورة البلشفية رغم الاعتقالات والإعدامات والقبضات الحديدية نجحت في إغلاق صفحة الماضي إلى الأبد.
ألغيت الجمهورية في فرنسا، أعلن الجنرال «نابليون بونابرت» نفسه إمبراطوراً، وعادت أسرة «البوربون»، التي أطاحتها الثورة إلى قصور الحكم.
تفكك الاتحاد السوفييتي، الذي شيدته الثورة البلشفية عام (١٩١٧)، وتهاوت منظومته الاجتماعية والثقافية لمصلحة ما تصور كثيرون أنه تقوض للأبد.
رغم ذلك، فإن للثورات آثارها التي تبقى تحت الجلد السياسي والاجتماعي، لا يمكن حذفها، أو إنكارها مهما طال الزمن.
إذا ما لخصت الثورة الفرنسية في مشاهد المقصلة، فإننا لا نكاد نعرف عنها شيئاً.
بعد سنوات طويلة من الاضطرابات والانتفاضات والانقلابات في بنية السلطة، استقرت فرنسا كجمهورية دستورية حديثة، وسرت مبادئها في أنحاء العالم. كان ذلك أفضل ما تخلف عن الثورة الفرنسية.
بذات القدر فإن أفضل ما يُنسب للثورة البلشفية أنها ساعدت على نحو جوهري في طرح قضية العدل الاجتماعي بأفق جديد. كانت أول ثورة اشتراكية في التاريخ الإنساني.
صعود وتراجع الماركسية داع بذاته لإعادة النظر والتفكير.
لعقود طويلة أثرت وألهمت نصف البشرية تقريباً قبل أن تنكسر شوكتها؛ بانهيار سور برلين يوم (٩) نوفمبر عام (١٩٨٩).
لا توجد ثورة خالدة في التاريخ. لكل ثورة أسباب استدعتها تعبيراً عن أزمان وعصور واحتياجات.
من زاوية ما صحيحة وموضوعية أسست الثورة البلشفية، بكل ما حملته من تجربة في الحكم، وما توّلد عنها من سياسات وما تبنته من استراتيجيات، لانقلاب كامل في بنية النظام الدولي، بدأت مقدماته قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بعام واحد، واستكملت حقائقه بعد الحرب العالمية الثانية.
انقسم العالم أيديولوجياً واستراتيجياً واقتصادياً إلى معسكرين كبيرين؛ بعد انتهاء الحرب الأخيرة. تصارع على النفوذ قطبان عظميان؛ هما: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة فيما يُعرف ب«الحرب الباردة»، التي انتهت بانهيار سور برلين، وتقوض حلف «وارسو» الذي كان يقابل حلف «الناتو» على الجانب الآخر.


في سنوات ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية، وانهيار سور برلين شمل نفوذ الاتحاد السوفييتي شرق أوروبا، التي اجتاحها الجيش الأحمر، والشرق الأقصى؛ حيث انتصرت الثورة الصينية وحاربت الثورة الفيتنامية، واصلاً إلى القارتين الإفريقية التي طلبت حركات تحريرها الاستقلال الوطني، واللاتينية التي رفعت سلاح حرب العصابات ضد الهيمنة الأمريكية كما حدث في كوبا. لم يكن العالم العربي خارج الاستقطاب الفكري والسياسي، الذي صاغ تلك المرحلة. حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة «جمال عبد الناصر مصر» و«جواهر لال نهرو الهند» و«جوزيب بروز تيتو يوغوسلافيا» اختراق النظام الدولي الثنائي القطبية، وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونج».
لم يعن ذلك الوقوف على مسافة متساوية بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان التحرر الوطني، القضية الأكثر مركزية على أجندة الدول المستقلة حديثاً.
بانفراد القوة الأمريكية بالنظام الدولي تعرض العالم العربي، أكثر من غيره، لما يشبه التحطيم لمصلحة ما تطلبه «إسرائيل»، على ما جرى في العراق مثالاً.
كان مثيراً أن أكثر من ابتهجوا لسقوط الاتحاد السوفييتي هم أنفسهم الذين دفعوا أغلب الفواتير. لم يعد لإرث الثورة البلشفية ذات الأثر الفكري والسياسي، الذي ساد أغلب سنوات القرن العشرين، لكنه أسس لنظرة تتجاوز تجربتها إلى حركة المجتمعات الإنسانية في طلب العدالة الاجتماعية.
طورت الرأسمالية من نفسها تحت ضغط الأفكار الاشتراكية، ونشأت في كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية» بتأثير أفكار رجال من حجم «تولياتي» و«جرامشي» في إيطاليا دمجت بين الفكرتين (الاشتراكية والديمقراطية).
نشأت في أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنساني» تجسّدت في «ربيع براج»؛ إثر وصول «إلكسندر دوبتشيك» إلى السلطة زعيماً للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي.
تبنى تجديد الاشتراكية ونزع ثقافة الخوف وإشاعة الديمقراطية والحريات الصحفية، لكن مشروعه جرى سحقه بدبابات «حلف وارسو»، الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، في أغسطس/آب (١٩٦٨).
أفلتت فرصة تصحيح في بنية المنظومة الاشتراكية، وكانت النهايات محتمة.


في الثورتين الفرنسية والبلشفية تبدت ثغرات واسعة ببنية نظاميهما؛ أفضت إلى نهايات مأساوية، غير أن التاريخ احتفظ لأي إنجاز إنساني جوهري قدرته على الإلهام عبر العصور.
الثورات لا تدفن في مقابر الصدقة. هذه حقيقة أولى أثبتت صحتها؛ بعد انقضاء الثورات بالانقلاب عليها، أو بأخطاء فادحة في بنيتها.
القطيعة مع الماضي من طبيعة الثورات، وإلا فقدت شرعيتها في طلب تغيير النظم والسياسات والتوجهات؛ لكن المحو قضية أخرى استعصت دوماً.
هذه حقيقة ثانية لم ندرس حيثياتها وأسبابها بما تستحقه من جدية في البحث والتقصي. من بين ما يستحق المراجعة في التجارب الثورية الحديثة، وبينها تجاربنا نحن، ما يدخل في الثقافة العامة الكامنة، التي يصعب تغييرها في يوم وليلة، بقرار أو بآخر.

&