& &نيفين مسعد

&

هذا أغرب موقف يمكن أن يصادفه محلل سياسى للأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران، فالطرفان لا يتوقفان عن التصعيد إلى المدى الأقصى والطرفان لا يكفّان عن تأكيد رفضهما الذهاب إلى الحرب. جزء من هذا الالتباس مرده أنه لا أمريكا كتلة واحدة ولا إيران كتلة واحدة، فكل منهما فيه صقور وحمائم ، من يشجعون على المواجهة ومن يفضلون تجنبها. وجزء آخر من الالتباس سببه التكلفة العالية لحرب ثالثة تنشب لا قدّر لها فى منطقة الخليج. ومن هنا فإن حتى من يرون الحرب خيارا مقبولا يتخوفون من الآثار الجسيمة المتوقعة لها. النقطة هى أن قرار عدم الدخول فى حرب لا يتوقف على النوايا بافتراض أنها نوايا حسنة ، لكن تجنُب الحرب يحتاج جهدا مشتركا من الولايات المتحدة وإيران ومن كل العقلاء فى المنطقة والعالم لمنع التورط فى الحرب ، سواء كان هذا التورط عن قصد أى بقرار سياسى مسبق أو دون قصد، أى ردا على أحد التصرفات الاستفزازية المفاجئة.

&

وفى محاولة لمنع هذا الصدام الكارثى، اقترح البعض حوارا فوريا بين السعودية وإيران ،لأن الأزمة فى الخليج إقليمية قبل أن تكون لها أبعاد دولية. وحول هذا المعنى كتب كل من المثقف السعودى عبد العزيز صقر مدير مركز أبحاث الخليج بالرياض والدبلوماسى الإيرانى حسين موسويان عضو مفاوضات الاتفاق النووى بين عامّى 2003 و2005 مقالا مشتركا فى صحيفة النيويورك تايمز بتاريخ 14 مايو الحالى تحت عنوان: حان الوقت كى يتحدث قادة المملكة العربية السعودية وإيران. وفى هذا المقال يؤكد الكاتبان أنهما كاثنين من المواطنين والسياسيين المحنكين انتهيا إلى أنه بعد عقود من الصراع بين دولتيهما توصلا إلى أنه آن أوان الجلوس للتفاوض .

ومع أنهما يقران بوجود خلافات بين هاتين الدولتين إلا أنهما يتبعان فى المقال نظرية نصف الكوب الملآن، أى ينظران إلى بعض ما يمكن أن يُقرّب بين الدولتين من قبيل: الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الحكومة الجديدة فى كل من العراق ولبنان، واقتراب الصراع السورى من نهايته، و الاتفاق على سيادة البحرين ، حتى فى اليمن ورغم الاختلاف على جذور الأزمة فإن الجانبين يقرّان بفداحة المأساة الإنسانية اليمنية. وينتهيان إلى أن استدامة الأمن فى الخليج تتطلب التعاون بين السعودية وإيران.

هذا المقال قد يبدو متفائلا بعض الشىء لأنه يقلل من الجوانب الخلافية بين الدولتين، وعلى سبيل المثال فإن السعودية وإيران تختلفان فى النظر لقضية سيادة البحرين ولا تتفقان عليها كما يشير الكاتبان، لكن المهم فى المقال أنه يمثل الاتجاه الرافض للحرب فى كلتا الدولتين، وهو اتجاه ما كان له أن يظهر بهذا الوضوح ويعبر عن نفسه فى الصحافة الأجنبية دون ضوء أخضر من المستويات الرسمية فى كل من الرياض وطهران، وهذه نقطة يمكن البناء عليها. أما ما يحتاج إلى مناقشته فعلا فهو مدى إمكانية إجراء حوار سعودى -إيرانى مباشر. ومن المتصور أنه فى ظل التصعيد المتبادل الحالى فإن الحوار الثنائى يأتى فى مرحلة لاحقة، أما هذه المرحلة المبكرة فإنها المرحلة التى تنشط فيها الوساطات، ولسلطنة عمان دورها المشهود فى هذا المجال وكذلك الكويت، ومن الممكن أيضا أن يتوسط العراق.

على صعيد آخر، هناك من اقترح التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران على أساس أن إدارة ترامب هى التى بدأت بالتصعيد ضد إيران. وهذا الاقتراح تقدمت به مجموعة الأزمات الدولية فى تقريرها الصادر فى 15 مايو الحالى تحت عنوان: إبعاد الولايات المتحدة وإيران عن مسار الصدام. ولكى يحدث ذلك يرى التقرير أن تُفعّل دول الاتفاق النووى الآلية المالية التى ابتدعتها من أجل تخفيف الضغط على الاقتصاد الإيرانى. ومنطق التقرير فى الدخول للعملية التفاوضية من هذا المدخل الاقتصادى أن إيران لن تتفاوض والمسدس مُصّوب إلى رأسها، وأنها لو أحست أن ظهرها إلى الحائط فإنها قد تلجأ إلى إشعال المنطقة وليس إلى الجلوس للتفاوض. أما مكسب الولايات المتحدة من هذا التفاوض فإن التقرير يرى أنه يتمثل فى التخفف من الأعباء الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط.

بالنظر لاقتراح الحوار الأمريكى - الإيرانى فإنه ليس جديدا وله العديد من السوابق بخصوص أفغانستان والعراق والملف النووى، وقد بدأ فى بعض الحالات غير مباشر وانتهى مباشرا.

صحيح أن الوضع الآن أكثر تعقيدا من أى وقت مضى لأسباب مختلفة، لكن التصعيد الذى تشهده المنطقة لا يمكن أن يستمر إلى مالا نهاية، وهو إما يفضى إلى صدام أو يقود إلى تفاوض، والنهايتان واردتان. ولكى يحدث التفاوض فإنه لابد من غربلة الإثنى عشر شرطا التى وضعها بومبيو ليفاوض إيران، فالانسحاب الإيرانى الكلى من سوريا غير واقعى وكذلك وقف البرنامج الصاروخى الإيرانى، لكن من الممكن التفاوض حول بعض بنود الاتفاق النووى وحول التدخلات الإيرانية فى الشئون العربية. كذلك فإن اشتراط إيران من جانبها عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووى قبل التفاوض هو شرط غير ممكن، لكن الممكن هو البدء بتجميد العقوبات الأمريكية على إيران ولو جزئيا.

هذه الأفكار تحتاج نقاشا موسعا ومخلصا لا أرى أهم منه الآن ومنطقتنا على شفا حفرة من النار، أما منطق من ليس معنا فهو ضدنا فإنه منطق سبقت تجربته، وما كان أبأس منه ولا أسوأ.