& جمال جصاني

تعرفنا على هذه المفردة “الاجتثاث” بعد استئصال المشرط الخارجي للنظام المباد، عندما سارعت قوى المعارضة التي ركدت وتعفنت في المنافي لأكثر من ربع قرن؛ في العودة الى الوطن استعدادا لتلقف مقاليد اموره المستقبلية. آنذاك ظهر تشكيل اطلق عليه اسم “هيئة اجتثاث البعث” والتي طرحت برنامجاً طموحاً ومترعاً بالحماس لتحويل ذلك الى حقيقة على ارض الواقع. لكن ما الذي حصل فعلاً..؟ منذ الاشتباكات الاولى في هذا الحقل الحيوي، كشف المتنطعون لهذا الامر عن ضحالة فكرية ونظرة حزبية وفئوية ضيقة، حيث تم تسخير مثل هذه الملفات ذات الطابع الوطني والقانوني والحضاري والقيمي لخدمة اجندات طائفية وعقائدية مغايرة لذلك تماماً، كانت باكورة ذلك محاكمة رأس النظام المباد والذي اعتقلته وسلمته لهم القوات الاميركية، اذ تم محاكمته بقضية ذات طابع حزبي ضيق (الدجيل) وكانت ادارة جلساتها واستعدادات ومؤهلات القيمون عليها مخيبة للآمال، ولم تختلف طريقة وتوقيت تنفيذ الاعدام فيه ومارافق ذلك من هتافات ومناخات، عن ذلك المنحى الذي الحق اضرارا فادحة بقضية الاجتثاث.
هذه البداية البائسة رسمت ما سنحصده من نتائج في هذا الملف (الاجتثاث)، عندما تحول تدريجياً الى ما يشبه الهراوة بيد الكتل والجماعات المتنفذة، مما الحق ابلغ الضرر بهذه المهمة الوطنية والدستورية والحضارية. وعندما نتصفح ما نضح عن الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور الغنيمة الأزلية “بستان

قريش” من سياسات وسلوك وممارسات ومعطيات في شتى مجالات المجتمع واسلاب الدولة؛ سيتأكد لنا طبيعة وحقيقة الادوار التي لعبتها، وعلاقة ذلك في الفشل الذريع الذي اجترحته في فزعاتها الكارتونية للاجتثاث المزعوم. ان الاصرار على مواصلة هذا النهج الاخرق في اجتثاث البعث على الورق وعبر برنامج واسع من الولائم والمؤتمرات وغير ذلك من النشاطات التي تعيد اجترار ما سبقها من فزعات ضحلة فكريا وقيمياً؛ يعني عملياً تقديم أفضل الخدمات لفلول البعث وواجهاته الجديدة، والتي يحرص الكثير منهم على المشاركة بمثل تلك المآثر الدونكيشوتية. لقد فشلت هيئة اجتثاث البعث في النهوض بما عهد اليها من وظائف لحزمة من الاسباب الموضوعية والذاتية، والتي يفترض الالتفات اليها جيدا لا المرور عليها دون ادنى وجع من عقل أو ضمير. كذلك فشلت وريثتها (المساءلة والعدالة) ولن يختلف الامر مع تسميات لاحقة؛ ان لم يتم تشخيص العلل الفعلية التي تقف خلف كل ذلك العجز والفشل والتي تختزلها العبارة المنسوبة للامام علي “صرت كناكش الشوكة بالشوكة، اداوي بكم وانتم دائي”.

لا يتناطح كبشان على ما عصف بالبعث وفلوله لحظة تبخر نظامهم المباد، وعندما نتحرى ما جرى بعد ذلك سنجد تحول واضح في المشهد، حيث بدأت واجهات الفلول باسترداد زمام المبادرة، ساعدها في ذلك هشاشة وبؤس حال من تلقف امور البلاد بعدهم، كتل وجماعات تفتقد للمشروع والسلوك والمعنى المضاد للبعث، ليس هذا وحسب بل ان تجربة 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية التي تجفف كل مخلفات حقبة البعث الكارثية، قد برهنت على ان غير القليل من “الورثة” يقتفون أثر اسلافهم في تسخير كل شيء من أجل “الرسالة الخالدة” والهلوسات الآيديولوجية البائسة. ان اجتثاث وتجفيف منابع البعث لن يتم بمثل هذا الاجترار المخزي لاساليب ونشاطات اثبتت عقمها البين، بل بشق الطريق لمعنى آخر يقتفي أثر ما دونه الجاحظ عن طبيعة شيم وخصائص وعقل سكان هذا الوطن القديم..

&