حلمي النمنم
& تحتفل الأمم عادة بذكرى الانتصارات والمناسبات العظيمة وتتجنب الاحتفال أو الاحتفاء بذكرى الهزائم والمناسبات المؤلمة، لذا فإننا إلى اليوم نحتفل سنويا فى شهر رمضان المبارك بذكرى انتصار المسلمين الأوائل بقيادة الرسول فى غزوة بدر؛ ولا أحد يتذكر أو يحاول الاحتفاء بذكرى هزيمة غزوة أحد التى أصيب فيها رسول الله، وإلى اليوم نتذكر سنويا معركة حطين وانتصار صلاح الدين الأيوبى الباهر على الجيوش الإفرنجية (الصليبية) وتحرير مدينة القدس والمسجد الأقصى، لكننا لا نتذكر ولا نحاول أن نتذكر يوم اجتياح الصليبيين للقدس، وذبحهم 90 ألف عربى فى نهار واحد بها.
وهكذا الحال على مستوى التاريخ الإنسانى كله وليس الإسلامى فقط؛ وفى عصرنا الحديث نجد روسيا تحتفل سنويا بذكرى انتصارها فى الحرب العالمية الثانية وتسمى عندهم «الحرب الوطنية الكبرى» حين حاصر هتلر مدينة ليننجراد وارتد عنها مهزوماً خاسراً، مما فتح الباب لهزيمته نهائيا، وتحتفل بريطانيا بذكرى الانتصار فى الحرب العالمية الثانية، حتى إن «تيريزاماى»، رئيسة وزراء بريطانيا، أجلت استقالتها أياما لتشارك فى هذا الاحتفال، قبل أكثر من أسبوعين، ويعتبر الفرنسيون ذكرى الإنزال فى نورماندى مناسبة وطنية عزيزة، ولا يحتفلون بمناسبة اجتياح الجيش النازى لباريس، ولا يحاولون تذكر الجنرال «بينان» الذى تعامل مع هتلر وحكم باسمه.
وفى تلك الحرب هزمت ألمانيا هزيمة ساحقة؛ فقد دمرت مدينة مثل «درسدن» تدميراً تاماً، أما العاصمة فقد هدم كل شىء فيها تقريبا، والأهم أنها قُسّمت فعليا، إلى قسم شرقى يتبع الاتحاد السوفيتى وقسم غربى يتبع الولايات المتحدة، بتدخل عسكرى ومخابراتى لكلتا القوتين العظميين؛ ولا نجد فى ألمانيا احتفالا سنويا بتلك الذكرى؛ نفس الأمر بالنسبة لليابان، فقد ألقيت عليها قبنلتان ذريتان، فى هيروشيما ونجازاكى، وكان الضحايا يوم إلقاء القنبلتين أكثر من 150 ألف قتيل، طبقا للتقديرات الأمريكية، وفُرض على اليابان استسلام مذل، ومع هذا لا نجد احتفالاً يابانياً كل سنة بتلك المناسبة.
وأتصور لو أن الألمان واليابانيين عاشوا واستغرقتهم حالة الهزيمة المذلة، لما نهض أى منهما؛ فبعد أقل من عشرين عاما على الهزيمة نهضت اليابان ونهضت ألمانيا؛ وصار الاقتصاد اليابانى هو الأقوى على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وصارت ألمانيا الاقتصاد الرابع على مستوى العالم والأقوى أوروبيا، وأمكنها سنة 89 تجاوز آخر بقايا هزيمة الحرب العالمية الثانية بهدم حائط برلين وإعادة توحيد ألمانيا، مرة أخرى لو عاش الألمان واليابانيون أجواء الهزيمة وحالتها؛ هل كان ممكنا لأى منهما النهوض؟
الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة أضخم وأحدث قوة عسكرية على مستوى التاريخ، هزمت فى حرب فيتنام وكانت هى التى سعت إلى السلام وحقق «ريتشارد نيكسون» مجد عمره بإنهاء تلك الحرب وتجنيب بلاده ويلاتها، ولا نجد تنديدا وملطمة أمريكية سنويا بهذه المناسبة، وهى نفسها الولايات المتحدة التى لم تنجح فى أفغانستان ولا فى العراق.
الاتحاد السوفيتى نفسه، صاحب الترسانة النووية الضخمة، دفع بقواته وعتاده سنة 1979 إلى احتياج افغانستان، وتم استنزاف قواته وأفراده المدربين، وفى النهاية هزمت القوات السوفيتية، وجاء إلى موسكو والمكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، ومن الخطوات الباكرة التى اتخذها قرار الانسحاب نهائيا من أفغانستان، واعتبروها هزيمة، وصدر عنها كثير الكتب بالروسية، عبارة عن شهادات ومعلومات تفسر لماذا جرت الهزيمة وكيف.. ثم باتت صفحة فى التاريخ الروسى مطوية يعود إليها الدارسون والمؤرخون، لكن لا تتحول مادة للتبكيت الوطنى والشماتة الرخيصة فى نظام سياسى مضى وثبت فشله.
وهكذا الحال بالنسبة لكل الأمم والبلدان، ليست هناك أمة على وجه الأرض وطوال التاريخ لم تتعرض للهزيمة يوماً ولا كان تاريخها كله انتصارات؛ ولولا ذلك لما كانت حركة التاريخ وصعود قوى وأمم وهبوط أخرى. الهزيمة مثل الانتصار ضرورة فى تاريخ كل أمة، والأفراد مثل الأمم فى ذلك أيضا.
ولكن بعضنا يخالفون تلك القاعدة ويصرون كل سنة على الاحتفاء بذكرى هزيمة يونيو 1967، ويحولونها إلى مندبة وملطمة سنوية، يقيمون أحزاناً كربلائية، يمارسون فرضها علينا فرضا ويمارسون طقوسها بمازوخية شديدة، يخالفون فى ذلك مزاجنا النفسى ويغالطون حقائق التاريخ؛ وقعت الهزيمة فى الخامس من يونيو 1967 وقد أمكن تجاوزها عسكريا بانتصار ضخم ومعجز يوم 6 أكتوبر 1973 قامت به قواتنا المسلحة، منهية تلك الهزيمة، وبتوقيع معاهدة السلام سنة 1979 أمكن التخلص نهائياً من كل آثار 1967. ما حدث فى حرب الاستنزاف وإعادة بناء القوات المسلحة ثم حرب أكتوبر 1973 وما جرى بعدها- يؤكد أن أجهزة الدولة بكافة مستوياتها العليا استوعبت تماما أسباب الهزيمة؛ وقررت اعتبارها «لحظة استثنائية» فى تاريخ هذا الوطن، وقد سمعنا من الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك وعدلى منصور والسيسى تصريحات مختلفة؛ كلها تحمل معنى واحدا وهو أن «يونيو 1967» كانت لحظة استثنائية وغير قابلة للتكرار.
والحق أن من يدرس تاريخ مصر سوف يكتشف أننا تعرضنا لهزائم أكبر وأفدح، وقد أمكن لهذا الشعب أن يتجاوزها، لنتذكر حين تغلب الهكسوس علينا ثم الفرس ومن بعدهما الرومان ثم الأتراك العثمانيون سنة 1517، والتى وصلت إلى حد شنق سلطان مصر طومان باى على باب زويلة، والاحتلال البريطانى، وهذه كلها هزائم مرعبة فى تفاصيلها؛ لا أهون مما جرى يوم الخامس من يونيو، ولكن تحويلها إلى كربلاء مصرية لا يمكن قبوله.
الغريب أن بعض هؤلاء الكربلائيين، الذين يمارسون التبكيت الوطنى علينا سنويا فى الخامس من يونيو، بعضهم يمجد هزيمتنا أمام العثمانيين وسليم الأول فى سنة 1517 ويصرون على اعتبارها «فتح مصر»؛ وبعضهم الآخر يدافع باستماتة عن فترة الاحتلال البريطانى بدعوى أننا كنا نعيش حالة ليبرالية، ليبرالية السير مايلز لامبسون الذى اقتحم قصر عابدين بدباباته وأهان جلالة ملك مصر فى 4 فبراير 1942!!
ونحن نتفهم، بل نلح على ألا تتوقف عقول الباحثين والمؤرخين والدارسين عن تناول هزيمة 5 يونيو بالبحث العميق واكتشاف ما قد لا يكون واضحا لنا وتبين الأسرار، وليس تحويلها إلى مناسبة بكائية أو ثرثرة لتمضية الوقت؛ والحق أن هؤلاء يفرضون على الرأى العام أجواء الهزيمة الخانقة ويستحضرونها باستمرار مع تعمد إغفال لحظات الانتصار.
أعرف أن هناك من يجعل سب وشتم جمال عبدالناصر هدفا وجوديا له؛ وليس لنا أن نناقش أى إنسان فى مشاعره أو اختياراته، وليس لنا أن نؤاخذه عليها، شأنهم فى ذلك شأن من يحاولون تقديس عبدالناصر، لكن ليفعلوا ذلك بعيدا عن تصدير كابوس الهزيمة للمصريين، لأننا تجاوزناها بالفعل منذ 46 سنة.
التعليقات