علي الخزيم
= ليس من السَّهل أن تكون مَلقوفًا وإن اجتهدت؛ فسوف يكون مَرَدُّك للفشل بالمحاولة؛ لماذا؟ لأنك قد لا تملك مقومات اللقافة المتأصلة بالجينات الوراثية؛ أو أن محاولاتك نحو اللقافة لم تَجِد عندك بيئة خصبة لتنشأ وتتطور على ابتكارات مُستَحدثة عصرية من صنوف اللقافة غير المحمودة، وهذا يعنى أن من اللقافة ما يوصف بالمحمود، إذا كان هدفه الاستبصار والبحث عن المزيد من العلوم والمعارف، أمَّا اللقافة مجال الحديث هنا فهي مُعاكسة ومُنَفّرة ومكروه صاحبها اجتماعيًا.
= اللقافة بمفهومها السلبي لم تكن وليدة هذا العصر بل هي قديمة مع الإنسان تُصيب القليل دون الكثير، ويأنف منها عامة الناس؛ ويدعو لتركها وتجنبها العقلاء وذوو الهِمَم العالية، واللقافة الإيجابية عَرَّفها الأقدمون بأنها: صفة للمرء الحاذق بسرعة تَلَقُّف مَعنَى ما يقال له؛ والتقاط ما يُرمَى إليه باحترافية قبل سقوطه أرضًا، ويبدو أنها إن كانت كذلك فهي غير مذمومة، ولم تذمّها العرب سوى حين استخدامها بما لا يليق وبما يخرج عن سراط الآداب العامة.
= إذا انحرفت اللقافة (بمعناها في اللهجة الدارجة الآن) إلى الحرص على تتبع زلَّات الأقارب والأصحاب، وتلقُّف أخبارهم ومشكلاتهم وخفايا علاقاتهم وشؤون حياتهم اليومية، فهي لا تُعَد من الأفعال المكروهة فحسب؛ بل إنها تُصَنَّف من الأفعال المُشينة، إذ إنها تتضمن التجسس على الغير وتتبع العورات والإيذاء الذي يطال أنفس ومشاعر من يتعرضون لسهام وتطفُّل ملقوف يَعمد لكشف وبَث ما خَفِي من أسرار القوم دون وجه حق، بل إن الشرع يندب لسَتر العورات بِغَضّ النظر عن مدى الصِلة بالآخر.
= وثمَّة علامات تلتصق بالملقوف منها: أنه يملك أذنين صافيتين حادتي السمع؛ ليتمكن من تحليل الأصوات ومخارج الحروف لنقل ما سمعه بحذافيره؛ ويُضيف له تحليلات اجتهادية كالتوابل المُشوّقة تُضفِي على أخباره مصداقية زائفة، ولا يَخدعنَّك صغر أذنيه فهي مؤهلة لسماع أضعف الأصوات بأقل تردداتها المُسجَّلة علميًا، وصِنْف من الملاقيف تجده أول الحضور للمناسبات الخاصة والعامة، يشم رائحتها قبل أن يُدعى إليها، يتربَّع بالمجالس ويُخشَى منه ما يُخشَى من الأبْلَه والسّقيم بمجالس العُقَلاء؛ فلا يؤمن جانبه؛ وقرأت لشاعر شعبي بهذا المعنى قوله:
(لعل ما بيني وبينه مواصيل
اللي ورا طرد العلوم يتلهّب
وِلْيا عزمته وأنت عندك رجاجيل
كِنِّك تحاضِي لك سلاحٍ مزَهّب)
= وإن كنت ستحسد أحدًا على أمرٍ، فاحسد الملقوف على حِدة بصره ودقّة تصويبه والتقاطه للصورة مهما بَعُدت؛ قال لي ظَرِيف من الأصدقاء: إن ملقوفًا ثقيلًا يزورهم بالاستراحة يملك قدرة فائقة لقراءة أي ورقة بيدك ولو كانت مقلوبة وعلى بُعد عدة أمتار! وذلك بما حَقَّقه من خِبرات ومهارات باللقافة والتلصُّص على الآخرين، وهذا ما جعل أولئك المتطفلين يزعمون أنهم يعلمون ويعرفون بكل شيء؛ ومهما كان مدار الحديث بالمجلس فهم الأعلى صوتًا والأكثر ثرثرة؛ وقالت العرب: (مَن كَثُر كلامُه كثرت زلَّاته).
= إذن فاللقافة مجرد طاقة مُهدرة يُعوِّض بها صاحبها ما يفقده بتركيبة شخصيته، وتزيد جلساءه ومعارفه نفورًا منه وبعدًا عنه، وبالنهاية يُمسِي مُنغلقًا يَدِبّ على هامش المجتمع.
التعليقات