&فضيلة الفاروق

&كنت طفلة على عتبة المراهقة حين اقتنينا التلفزيون أول مرة، والهاتف أبو الأرقام الدوّارة، والسماعة الثقيلة الموصولة بشريط لولبي لقاعدة الهاتف، استبدلنا التلفزيون القديم (الأبيض والأسود) بآخر جديد ملون وأنا صبية في الثانوي، عشت زمن الراديو الضخم الذي يشغُلُ زاوية من غرفة الجلوس، قبل أن يتحوّل إلى ديكور، ثم عشت زمن الكاسيت وما تلاها من اختراعات..

بعد الثلاثين دخل الكومبيوتر حياتي، ثم هاتف نقال يعتبره ابني قطعة أثرية، كما يعتبر حياتي جزءاً من تاريخ الشنفرى وتأبّط شرّا.

عشت فصلا كبيرا من عمري في زمن الجرائد بحجم الشرشف، والتي حرصنا على شرائها كل يوم لنقرأ أخبار البلاد والعباد، وكانت جرائد رائعة، لأنها تلبي نهم كل أفراد العائلة، قبل أن تستفيد منها أمي في مآرب أخرى.

رأيتُ تغيرات كثيرة على مدى الخمسين سنة الماضية، وبالعربي "المشبرح" لقد شخت، وهذا شعوري منذ بدأت أستنجد بابني ليساعدني في فهم الألغاز الرقمية التي غزت كل شيء في حياتنا، وحين عدت للتلفزيون لمشاهدة مسلسلاتي بعد أن تخلصت منه منذ سنوات، فقد أوهمنا الجميع أن المستقبل سيكون رقمياً، وأن الفرجة ستصبح أونلاين، والقائلون بذلك لم يتخطوا الخمسين في الغالب، لأنهم لم يعانوا من ضعف النظر، ومشكلات العينين، وأمور أخرى، فمنذ أصبحت الجرائد أونلاين لم أعد أتصفح الجريدة، بل ألقي نظرة على الصفحة الثقافية وبعض كتاب المقالات الذين أتابعهم، وأغلق جهازي، وأعتقد أن هذا أسوأ عصر للصحافة المكتوبة، بعد أن حرمت شريحة كبيرة من القراء من متابعة أخبار العالم بسبب شيخوختهم، وتجاوز الزمن لهم، حتى انحسر بعضهم إلى نشرات المساء المتلفزة، والبعض الآخر علق مع أصدقاء العمر في الحكايات نفسها يوميا، قبل العودة للبيت للنوم فقط..

ربما أبالغ، لكني لست بعيدة عن الحقيقة، فنحن ربما آخر جيل ركض بين الحقول والمروج، واصطاد العصافير والضفادع، وأخرج الحيايا من مخابئها دون خوف، ولعب الغميضة، واخترع ألعابا لا نهاية لها تُلعَب جميعا في الخارج الفسيح تحت التغيرات الموسمية والفصول، نحن آخر جيل بدائي على هذه الأرض، إذ أعتقد أن الخمسين سنة القادمة قد تشبه فيلم "أفاتار" أو "باسنجرس"، من يدري؟

أحفادنا سيعيشون ونحن غياب حياةً مختلفة تماماً عن التي عشناها، سيقفز العلم قفزة عملاقة نحو الأمام، لتصبح الحياة كلها رقمية، يمكن حفظها في شريحة، وزرعها في رأس أحدهم للاستغناء عن كل ما سبق من وسائل ورقية وإلكترونية.. نعم أتوقع هذا العصر للبشرية.