&علي العميم

&

صاحب الشأن في القضية التي أثارها سيد قطب، هو عبد المنعم خلَّاف، فلننظر إلى ماذا قال فيها.
كانت مجلة «الرسالة» قد نشرت مقالاً له عنوانه «(بين أومن بالإنسان)... و(هذه هي الأغلال)» نُشِر بعد نشر مقال سيد قطب الأول عن القصيمي في مجلة «السوادي» بأسبوع. وفي هذا المقال عبّر عن غبطته أنه رأى القصيمي في كتابه يتناول بالشرح والتأييد قضيتين يدور حولهما فكره، وهما قضية «الإيمان بالإنسانية»، وقضية الاعتقاد أن «الحياة صادقة»، وحمد الله شكراً لما رأى عنوان الفصل الأول «لقد كفروا بالإنسان - الإيمان به أول»، لأنه بهذا يعتنق فكرته ويدعو لها بحماس، ويصدّر بها كتابه. وثنّى بالشكر لله، لأن ما سبق أن قاله في القضية الثانية قد وجد صدى مدوياً في أغلب فصول

الكتاب. مأخذه على القصيمي أنه رأى أن كتابه يخلو من أدنى إشارة إلى تسجيل سبقه هو إلى هذه الدعوة، وأنه رأى القصيمي مع هذا الإغفال له «يحدث ضجة مفتعلة حوله، ويصدّر غلافه بهذه الجملة: سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل... وإنه ثورة في فهم الدين والعقل والحياة». ويعترض على تصدير القصيمي النرجسي هذا، بقوله: «كأن مؤرخي الفكر عميان لا يتلمسون مصادر الآراء»!
ويشرح اعتراضه هذا، فيقول: «وإني أعجب كيف يجرؤ كاتب أو مفكر يحترم رأي الناس ويستحي من نفسه أن يسبق التاريخ ويصدر حكمه على عمله بهذه الدرجة من الافتتان والزعم! إن المفكر الواثق من أنه أتى بجديد حقاً يضع آثاره بين يدي التاريخ في صمت، ويدع له أن يحكم، ولا يتعجل الحكم حتى تعلمه الأيام سواء في حياته أم بعد مماته... والمفكر الأمين الثقة الغيور على الحق وحرية الفكر يترفع عن أن يغمط حق غيره، وعن أن يغطي جهود مَن سبقوه بالدعاوى الجريئة لنفسه، لأن هذا إن جاز في مجال الإعلان عن المتاجر والمهن فلن يجوز في رحاب الفكر».
وفي موضع آخر من المقال، أعلن عن سروره بانتشار فكرته، رغم انتحال ناشرها لها. وفي خاتمة المقال رأى أن سيد قطب كشف له في مقاله الأول خبايا كبيرة في آراء القصيمي الشخصية، وسلوكه السياسي نحو محطمي أمجاد الإسلام والأديان، ومهدري كرامة الإنسان، ورجا أن يجد من الوقت ما يسمح له بتتبع الالتواء الذي خرج به القصيمي عن جادة الفكرة الأصيلة التي تبناها في حياة أبيها.
وكما نرى، فإن صاحب الشأن لم يتهم القصيمي بالسرقة منه، وإنما أشار إلى أنه تناول قضيتين هو مهموم بهما بالشرح والتأييد، وأنه غمطه حقه الأدبي في تسجيل سبقه في الدعوة إليهما، مشدداً على أُبوّته للفكرة التي تضمنتاها.
وذكر استناداً إلى الكشف القطبي الذي غاب عنه حينما قرأ كتاب القصيمي أنه حرف فكرته عن مسارها القويم إلى مسار منحرف!
وجاء سيد قطب في مقاله الثاني فشفّ ما قاله خلاّف عن لي القصيمي لفكرته، ودفع ما قاله خلاّف عن تأثر القصيمي بفكرته إلى حد أقصى في مقاليه الثاني والثالث، فتورط برعونة باتهامه بالسرقة. تورط برعونة لأنها كانت تهمة لا سند لها. وقد فشل في إثباتها فشلاً ذريعاً.
ما قاله عبد المنعم خلاف في شرحه لاعتراضه في نقد تصدير القصيمي النرجسي لكتابه، هو عين الصواب، فلقد أخطأ القصيمي بكتابة ذلك التصدير غير الموفق.
وما قاله عن وجوب الترفع عن غمط السابقين حقوقهم الأدبية، هو محق فيه، لكن علي أن أنبه إلى أنه لم يستطع أن يثبت تأثر القصيمي في الفصل الأول من كتابه وفي فصول أخرى بالقضيتين اللتين يدور حولهما فكره. قرأت مرة أخرى كتابه «أومن بالإنسان» وكتاب القصيمي «هذه هي الأغلال»، بهدف التأكد من صحة دعواه، فلم أجد أنها صحيحة. فلا يوجد سوى شيء من المشابهة في عنوان الفصل الأول من كتاب القصيمي «لقد كفروا بالإنسان - الإيمان به أول»، وعنوان كتابه «أومن بالإنسان».
والإيمان بالإنسان، أو بتعبير مختلف، مركزية الإنسان في الكون، هي قضية تحدرت إلى الثقافة العربية في العصر الحديث من الثقافة الغربية الحديثة، وكانت هذه القضية مطروحة ومتداولة بين المثقفين العرب. فالعلمانيون العرب في عصر النهضة العربي كانوا يؤمنون بمركزية الإنسان في الكون التي هي معاكسة لموقعه في الفكر الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي. وكتاب عبد المنعم خلاف محاولة للتوفيق بين الإيمان بالأنسية أو الإنسانوية - أو حسب المصطلح الغربي - الهيومانيرم، واللاهوتانية الإسلامية. وهذه المحاولة تستند إلى توجه ديني منفتح ومتفتح، وإلى نزعة ثقافية حديثة عصرية تسعى إلى احتواء تحدي العلمانية في حده الأقصى المتمثل في الإلحاد وتأليه العقل من جهة، والنهوض بالعقل الديني الإسلامي، بدفعه نحو الواقع الوضعي التاريخي من جهة ثانية. كتاب القصيمي هو الآخر يندرج ضمن ذلك السياق التوفيقي، لكنه يختلف كلياً عن كتاب خلاّف في موضوعاته وفي قضاياه وفي أسلوب عرضه ونوع طرحه. كتاب القصيمي يختلف عن كتاب خلاّف بأن تعرض للمشكلات المتعلقة بالفكر الديني الإسلامي في جانبه التراثي، وفي جانبه السائد في زمن تأليف القصيمي لكتابه، المسببة للتخلف العلمي والثقافي والاجتماعي والمعيقة للتقدم الصناعي والحضاري والإبداع الثقافي، وشخّصها وعالجها بالنقد المباشر والصريح، بينما كتاب خلاف لم يتعرض إلى شيء من هذا.

كتاب القصيمي يختلف عن كتاب خلاف بأنه أكثر وضوحاً وتحديداً، فهو كتاب ديني إصلاحي وعقلي وتقدمي ونقدي، في حين أن كتاب خلاف، وإن كان - على نحو من الأنحاء - كتاباً دينياً عقلياً وتقدمياً، يفتقر إلى التحديد الموضوعي والتاريخي لموضوعاته وقضاياه، فالكتاب غارق في المطلقات والمجردات والتنظير النظري اللاتاريخي والمثالي المفصول عن أفق الفكر الديني الإسلامي الكلاسيكي وتجربته التاريخية، والمنفصل عن واقع الفكر الديني الإسلامي وواقع شعوبه في زمنه.
في خاتمة مقاله، تحولت القضية التي أثارها سيد قطب عند عبد المنعم خلاف إلى وعده للأدباء ولعامة القراء إن سنح له الوقت بتتبع الالتواء الذي خرج به القصيمي عن جادة الفكرة الأصيلة التي هو أبوها.
وقد انتظر الأدباء وعامة القراء أن يحقق ما وعد به، لكنه أخلف وعده. ربما لأنه لم يجد وقتاً للوفاء به!
بعد مضي سنوات، وتحديداً في 5 مايو (أيار) 1951، أعاد الحديث عن القصيمي وأغلاله في مقدمة كتابه «العقل المؤمن أو الدين من طريق الفكر»، لا ليفي بوعده، وإنما ليتهمه بالسطو على كتابه!
اتهامه الأول للقصيمي كان اتهاماً له بالتأثر بكتابه، وعدم الإشارة إلى هذا مع أنه كان السباق للفكرة وكان أباها. واتهامه الآن له صار اتهاماً بالسرقة والسطو. اتهامه هذا جاء متأخراً جداً. فسيد قطب كان يُنتظر منه قبل سنوات هذا الاتهام، ليعزز به اتهامه للقصيمي بالسرقة من كتابه.
يقول خلاف في تلك المقدمة: «وقد نشر أكثر بحوث هذه السلسلة في المجلات الأدبية العربية ابتداء من سنة 1937. وأسجل هذا التاريخ ليقف مؤرخو الفكر ونقاد الحركة الأدبية العربية على منشأ دعوات زعم مدعوها أنهم مبتدعوها، بعد أن حرفوها وأحدثوا حولها ضجة من الدعاية المفتعلة، حباً في الشهرة المحرمة... بل إن أحدهم، (وهو عبد الله القصيمي النجدي) مؤلف (هذه هي الأغلال)، لم يتورع أن يسطو على (أومن بالإنسان)، ويملأ به ثلث كتابه كذلك، ثم لا يشير من قريب أو بعيد إلى من سبقه، كما توجيه الأمانة العلمية».&

على ماذا استند اتهامه الجديد هذا للقصيمي؟
استند إلى هذه الرواية التي كما حكاها: «قابلني مرة في ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة قبل طبع الكتاب، وعندما عرف اسمي سألني: ألا تزال تؤمن بالإنسان...؟ وناقشني مناقشة عابرة حول الموضوع، وأظن إذا لم تخني الذاكرة أن باحثاً نجدياً شهد هذا الحديث لعل لقبه الأزهري أو المزروع... فانظر وتأمل تجاهل القصيمي حينما سأله الأستاذ قطب بعد معرفته الأكيدة لشخصي وفكرتي، ومناقشته لي!!».
ويتم روايته هذه، فيقول: «حينما عقبت في مجلة (الرسالة) في 25 - 11 - 1946 على مقال الأستاذ قطب عن القصيمي ومؤلفه في مجلة (السوادي)، لم أذكر مقابلتي للقصيمي إذ لم أتذكر أنني قابلته تلك المقابلة السابقة وأنه سألني سؤاله المذكور، لأن اسمه لم يعلق بذاكرتي، فلما رأيت شخصه في (دار الحكمة) بعد صدور كتابه وتعليقي على نقد الأستاذ سيد، لم أعرف أن ذلك الشخص هو صاحب هذا الاسم وذلك الإثم! حتى عرفني به الأستاذ الصحافي محيي الدين رضا، وقد حسب أنني عرفته وتجاهلته غضباً مني لفعلته... فقلت له: أهو هذا؟ واتجهت إليه وقد تذكرت مقابلتنا في ندوة اللجنة وزاد عجبي، وقلت له: أأنت هو! ومع ذلك تنكر؟ وذكّرته بمقابلتنا وسؤاله لي، فأسقط في يده وأخذ الحرج حتى بدا زبد شدقيه».
هذه الحكاية وتتمتها لا تثبت اتهام عبد المنعم خلاف القديم للقصيمي بالتأثر بكتابه، ولا تثبت اتهامه الجديد له بالسطو على كتابه؛ فمحك الإثبات هو الإتيان بأدلة وقرائن واضحة من نص كتاب «هذه هي الأغلال»، تشير إلى التأثر وإلى السطو. ومن غير الإتيان بهذا يبقى الاتهام القديم والاتهام الجديد محض ادعاء، لأنه يخلو من البينة والبرهان.

قد يكون من الوارد، وبقدر كبير، أن القصيمي قد قرأ مقالات كتاب خلاف المنشورة في مجلتي «الرسالة» و«الثقافة» قبل أن يجمعها في كتاب عام 1945، يحمل العنوان نفسه التي حملته تلك المقالات، وأنه أنكر قراءته لها لغاية ما في نفسه، لكن لا يوجد أثر لكتاب خلاف في كتابه حتى في حد أدنى، فضلاً أن يكون قد سطا عليه.
من المؤكد أن الأخ العزيز عبد العزيز الخراشي لا يعلم أن عبد المنعم خلاف أعاد الحديث عن القصيمي في مقدمة كتابه «العقل المؤمن أو الدين من طريق الفكر»، فلو كان يعلم بها لأدرجها في كتابه «عبد الله القصيمي: وجهة نظر أخرى»، لتتلو بحسب ترتيبه مقالات سيد قطب عن القصيمي ومقالة خلاف السالفة، خصوصاً أن المقدمة من أولها إلى آخرها هجوم وتهجم على القصيمي.
مما يجدر ذكره أن المقدمة خلت من أي كلمة لها صلة بموضوع الكتاب. وهذا من عجائبها. وللحديث بقية.