& رامي الخليفة العلي

على امتداد سنوات طويلة كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحظى بشعبية منقطعة النظير يصل في بعض المناطق ولدى بعض الناس إلى حد القداسة، فقد تم الترويج لصورة زائفة سواء عبر تصريحات عنترية أو عبر أدوات إعلامية كانت مجرد دمى الماريونيت بين يدي زعيم حزب العدالة والتنمية. وكما هي عادة أبطال الورق ومدعي الزعامة فإن نقطة البداية كانت القضية الفلسطينية، حيث قام الرئيس التركي بحركة استعراضية أمام رئيس وزراء إسرائيل السابق شمعون بيريز في منتدى دافوس 2009، وكال له الاتهامات خصوصا أن إسرائيل كانت للتو قد أنهت عدوانها على قطاع غزة. تلقفت بعض وسائل الإعلام العربية، وخصوصا تلك التابعة للإخوان المسلمين بشكل مباشر أو غير مباشر، هذه الصورة وراحت تروج لأردوغان باعتباره الزعيم المنتظر والمخلص القادر على انتشال الأمة من محنتها. وفي تضليل متعمد أخفت وتجاهلت علاقات تركيا مع إسرائيل، ففي ذلك الوقت كانت اسرائيل منخرطة بمشاريع عسكرية متقدمة مع الجيش التركي منها على سبيل المثال لا الحصر مشروع تصنيع طائرات بدون طيار، كما أن إسرائيل كانت شريكة لتركيا في مناورات عسكرية سنوية، كما أن العلاقات الاقتصادية كانت الأقوى بين البلدين على صعيد الشرق الأوسط. انتفاضة أردوغان لم تتجاوز تلك الصورة الاستعراضية فبقيت المشاريع على حالها وبقيت العلاقات تسير بخطى ثابتة.

ما إن تقادم الزمن على مسرحية دافوس حتى استثمرت تركيا سياسيا وإعلاميا في سفينة مرمرة التي هاجمتها القوات الإسرائيلية، وقتل 9 مواطنين أتراك، ما لا يعلمه الجميع هو أن تركيا لم تعط موافقة رسمية بذهاب تلك السفينة لكسر الحصار على غزة، ولكن أردوغان كعادته استثمر دماء أبناء بلده لتسليط الضوء عليه، وبالمناسبة فإن ما حدث لم يغير من واقع غزة في شيء ولكنه أعاد الزعيم الشعبوي إلى قلب المشهد الإعلامي دون أن يغير ذلك من مستوى العلاقات الإسرائيلية ـ التركية المتطورة. عملية التلميع لشخص أردوغان والتي لم تكن بدعا في تاريخ المنطقة المعاصر جعلت الرجل ينفصل عن الواقع ويرى نفسه قائدا لموجة التغيير التي أعقبت ما سمي الربيع العربي، فوجد أردوغان في الإسلام السياسي رافعة لمكانة شخصية تضعه خليفة المسلمين كما تزعم بعض الأحزاب الإسلاموية، كما أنه وجد في هذا التيار حصان طروادة لنفوذ تركي متجدد في منطقة مثقلة بالأزمات والآلام، فراح أردوغان يتاجر بتلك الآلام، وبعد أن كانت القضية الفلسطينية محور التجارة أصبحت قضايا العرب كلها مثار تدخل تركي، حتى أصبحت أنقرة جزءا من معظم تلك القضايا، فساند الإخوان في مصر واحتضن النهضة في تونس واحتكر المعارضة في سورية ودعم الميليشيات في ليبيا وحول إسطنبول إلى عاصمة الإسلام السياسي بلا منازع. وعندما وصل الإخوان إلى الحكم في مصر وكذا في تونس بدا أن أردوغان تحول إلى قائد هذا التيار وأراد تكرار التجربة في بقية الدول العربية. ولكن ما لم يحسب له أردوغان حسابا هو إكراهات الواقع والبنية الأيديولوجية المتخلفة لتلك التيارات والأساليب الباطنية التي لا تتسق مع روح العصر، سقط المشروع في مصر وتراجع في تونس وتحول كارثة في سورية وليبيا. لكن تطلعات أردوغان لم تتراجع وكان وما زال ينتظر الموجة الثانية من الثورات المزعومة التي يكثر الإخوان المسلمون الحديث عنها، إلا أن ما أجبر أردوغان على الاعتراف بواقع ما يحدث هي التطورات في سورية، حيث فشلت تركيا فشلا ذريعا في إدارة الصراع هناك، فالمعارضة التي دعمتها تركيا تراجعت على امتداد سنوات حتى اضمحلت، ووصول طرف سياسي تابع لتركيا للحكم في سوريا أصبح مستحيلا، كما أن أعداء تركيا وأردوغان من الأكراد أصبح لهم وجود سياسي وعسكري، نتحدث عن قوات سورية الديمقراطية، عند ذاك قرر أردوغان أن يغير من نهجه السياسي.

حاول أردوغان الحفاظ على نفس الخطاب الشعبوي والسياسة الإعلامية وفي الوقت عينه اتباع سياسة براجماتية وانتهازية. ذلك لم يكن ليتحقق إلا بضرب السوريين في الظهر، ففي الوقت الذي كان يُسمع أردوغان السوريين ما يريدون أن يسمعوه كان يتفاهم مع روسيا من أجل استيلاء النظام على حلب بمقابل دعم روسيا لعملية عسكرية في الشمال السوري (عملية درع الفرات) كما وافق أردوغان على إجهاض الثورة السورية بمقابل ضمان روسيا لمصالح تركيا في الشمال السوري فأجبر أردوغان المعارضة على اتفاقية مناطق خفض التصعيد والتي أسكتت جبهات المعارضة وأصبح النظام وروسيا هما من يختار الجبهة ويدمرانها ويطردان سكانها كما حدث في الغوطة والقلمون وسهل حوران، وأخيرا تم تجميع المعارضين في منطقة واحدة وبدأت الحمم الروسية والإيرانية والتابعة للنظام تنهال على المنطقة بكل ما فيها، وأصبح السكان محاصرين بين الموت والموت، بين الغدر والخيانة، عند ذاك سقطت كل الأقنعة عن وجه السيد أردوغان وبان القبح لكل السوريين. تستطيع أن تكذب على بعض الناس بعض الوقت ولكن لا تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت، ومع الوقت سقطت كل الأكاذيب التركية.

&