علي العميم

لا توجد في بغداد، عام 1926، وهو العام الذي قدم القصيمي وعبد العزيز بن راشد من دلهي إليها، مدرسة اسمها مدرسة الكاظمية. وأصل هذا الغلط عبد الله القصيمي؛ فقد قال في رسالة لأحمد السباعي: «هبط بنا القائد (يعني عبد العزيز بن راشد) في بغداد. وهناك في بغداد عرضنا على مدرسة داخلية تسمى إن لم أكن قد نسيتُ (الأعظمية)، وقد تكون (الكاظمية)، لنكون فيها طالبين». وفي إفادته لفازلا حسم بأن اسمها الكاظمية!
المدرسة التي تقدَّم للدراسة فيها عبد العزيز بن راشد والقصيمي وعبد الله بن علي بن يابس مدرسة قديمة في جامع الإمام الأعظم، أبي حنيفة. وقد أُعيد بناؤها عام 1911 في العهد العثماني، وأعيد بناؤها مرة ثانية عام 1923، في العهد الملكي، وسُمّيت كلية الأعظمية أو الكلية الأعظمية، وجعلها هذا العهد تابعة لديوان وزارة الأوقاف. وفي عام 1924، أُبدل اسمها إلى دار العلوم العربية والدينية.
الحي الذي يقع فيه جامع الإمام الأعظم يُسمّى حي الأعظمية. وفي مقابل هذا الحي على الضفة الأخرى من نهر دجلة هناك حي اسمه حي الكاظمية. وسُمّي بهذا الاسم لأنه موجود فيه مرقد الإمام موسى الكاظم، وإلى جواره مرقد حفيده الإمام محمد الجواد. وهذا المرقد مكان مقدَّس عند الشيعة، ولهذا تُسمّى الكاظمية عند الشيعة بالكاظمية المقدسة.
نسي القصيمي اسم المدرسة لأنه لم يدرس فيها، وإنما تقدم لامتحان القبول فيها. ومن الواضح لنا أنه خلط بين اسم حي الأعظمية واسم حي الكاظمية. وغلطه في اسم المدرسة يدل على أنه انفصل تماماً عن معلوماته في مرحلة سجاله مع الشيعة في كتابه «الصراع بين الإسلام والوثنية»، الذي ردَّ فيه على

كتاب «كشف الشبهات في أتباع محمد بن عبد الوهاب» للإمام الشيعي محسن الأمين العاملي.
إنه لو لم ينفصل عن تلك المعلومات لكان عرف أن مدرسة دينية سنية في مدينة سكانها خليط ما بين الشيعة والسنة لن تحمل اسم إمام شيعي مقدَّس!
يقول يعقوب الرشيد عن القصيمي إنه تعلم اللغة العربية في إحدى المدارس بالهند. وقد يفهم القارئ من هذا القول إن اللغة العربية كانت (بالنسبة له) لغة ثانية، والصحيح أنه درس النحو فيها بوصفه من مستلزمات طلب العلم الديني. وكذلك قوله: «ثم انصرف عنها إلى دمشق ثم إلى القاهرة. وللتصحيح أن القصيمي وبن راشد لم يدرسا في دمشق؛ فهما، ومعهما بن يابس، مروا بدمشق في طريقهم من بغداد إلى القاهرة».
عن سبب ترك القصيمي وبن راشد الزبير والذهاب للهند، ينقل إبراهيم عبد الرحمن عن القصيمي قوله إنه سمع مع رفيقه بن راشد من الشيخ الشنقيطي أن هناك مدرسة لأهل الحديث في دلهي تقبل الطلاب مجاناً، وتعلّمهم تفسير القرآن والأحاديث الدينية الإسلامية، فقررا التوجه إلى الهند. وقد تكون الأسباب الصحيحة أن مدرسة النجاة الأهلية مخصصة لصغار السن، وأن التعليم الديني فيها تعليم أولي بسيط، وأنهما كانا ينشدان تعلُّم علم الحديث. وفي حديثي عند دراستهما في الزبير قلت إن الشيخ الشنقيطي هو الذي نصحهما بالتوجه إلى مدرسة الرحمانية في الهند. وهذه المعلومة أخبرني بها ناصر الحزيمي نقلاً عن الشيخ عبد العزيز بن راشد. ففي عام 1977، قرأ ناصر على هذا الشيخ في الحرم المكي كتاب «مختصر علوم الحديث» لابن كثير قراءة خاصة، لأنه (كما يقول ناصر) كان ممنوعاً رسمياً من إلقاء دروس عامة، بسبب صدور شكاوى من طلبة العلم بحقه لإصداره فتاوى غريبة وشاذة. ويعزو ناصر إصداره لفتاوى غريبة وشاذة لتطرفه في مذهبه الظاهري، فناصر يقول عنه إن كان ظاهرياً أكثر من ابن حزم!
القصيمي وإن كان أثنى على ابن راشد فلقد غمطه حقه، إذ لم يتحدث عنه بما فيه الكفاية لأحمد السباعي وفازلا، بل كان شحيحاً في الحديث عنه، مع أنه حافظ على الود القديم بينه وبين القصيمي ولم يرد على كتابه، «هذي هي الأغلال»، ولم يسئ إليه ويشوه صورته، كما فعل رفيقهما الثالث بن يابس.
ينقل إبراهيم عبد الرحمن عن القصيمي تعريفه بابن راشد بأنه كان يعمل متنقلاً في أعمال تجارية صغيرة جداً، وهذه المعلومة غير دقيقة؛ فكما أخبرني ناصر أنه كان تاجر لؤلؤ من الحجم المتوسط، فلو أنه كان يتنقل في أعمال تجارية صغيرة جداً، لما كان أمكنه أن ينصرف إلى طلب العلم الديني.
ويقول فازلا عن بن راشد والقصيمي: «بعد ذلك رافق القصيمي ابن راشد، الذي يكبره عدة سنوات في رحلة إلى مختلف المؤسسات التعليمية الإسلامية قادتهما عبر العراق والهند وسوريا إلى جامعة الأزهر في القاهرة. وغطيا تكاليف الرحلة من ميراث صغير كان أبو القصيمي تركه بعد موته».
في ظني أن هذا الميراث الصغير لا يغطي تكاليف رحلتهما، ولا يغطي حتى تكاليف رحلة القصيمي وحده. فأبوه كان رقيق الحال، وله إخوة غير أشقاء من زوجة أبيه الشارقية الذين تقاسم معهم ميراثه الطفيف. إن القصيمي قد قال بهذا ليغطي على معلومة عزّ عليه، لكبرياء به، أن يذكرها، وهي أنه كان يعيش في تلك الرحلة في كنف بن راشد مالياً. وكان بن راشد (كما ذكر لي ناصر الحزيمي) يساعد القصيمي ويساعد بن يابس مالياً حينما كان الثلاثة يدرسون في جامع الأزهر إلى أن حددت لهما مع ابن راشد مكافأة مالية من الحكومة السعودية.
سأل ناصر الحزيمي بن راشد عن سبب تحول القصيمي الخطير، فأجابه بأن السبب المباشر هو الشيخ يوسف الدجوي وتلاميذه ولجاجتهم معه وظلمهم له.
يقول ناصر الحزيمي: «أتذكر أن الشيخ بن راشد في حديثه عن القصيمي كان جمَّ الأدب وفي غاية التهذيب. وعموماً فالشيخ كان من خصاله الحميدة أنه عفّ اللسان، ويتوخى العدل والإنصاف مع الذين يخالفونه ويخالفهم».
الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي، كما يُدوّن اسمه على مؤلفاته، هو عبد العزيز بن راشد آل حسين من عائلة تنتمي إلى الأشراف. وهو من قرية المفيجر التابعة لبلدة الحريق. وقد كان عضواً مع الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ محمد حامد الفقي والشيخ عبد الرزاق حمزة والشيخ عبد الرحمن الوكيل والشيخ محمد خليل هراس في «جمعية أنصار السنة المحمدية». وكان أهل هذه الجمعية يسمونه الشريف النجدي. مؤلفاته هي: «تيسير الوحيين في الاقتصار على القرآن مع الصحيحين»، و«متشابه القرآن»، و«ما هو الربا المحرم؟»، و«الطواغيت المقنعة في الإسلام» و«الأشفية الرحمانية مع بيان الأمراض القلبية»، و«هاتف الأمن»، و«رد شبهة الإلحاد عن أحاديث الآحاد»، وهذا الكتاب مختَلَف في عنوانه. تُوفّي الشيخ في عام 1982. المعلومات التي نقلها سليمان الخراشي عن يعقوب الرشيد في ترجمته للقصيمي، والتي وقفنا على أغلاطها، أخذها يعقوب الرشيد من كلام لفازلا، وأصل الغلط في بعضها هو القصيمي نفسه، والبعض الآخر هو أن يعقوب الرشيد لم يحسن جيداً فهم ما قاله فازلا عن القصيمي.
بعض المعلومات التي أقرها سليمان الخراشي في ترجمته للقصيمي تتضارب مع بعض المعلومات التي أقرها في ترجمته لرفيقه في الدراسة عبد الله بن علي بن يابس، ولم يقرر ما الصحيح فيها: هل ما قاله القصيمي أم ما قاله بن يابس في رواية خط سير رحلتهما العلمية مع بن راشد؟!
عبتُ على الأخ العزيز سليمان الخراشي في مقالي «عنوان غير صحيح» إدراجه كتاب «من أخبار المنتكسين: مع الأسباب والعلاج»، ضمن الردود على القصيمي، وذكرتُ في ذلك المقال عيباً واحداً في الكتاب يقعده أن يُصنف باعتباره رداً على القصيمي، وذكرت أن الكتاب صادر في عام 1995، وأن الخراشي اعتمد على طبعته الثالثة الصادرة في عام 2006!
وسأوضح الآن لماذا فعل ذلك.

في الطبعة الأولى من الكتاب تحدث مؤلفه عن القصيمي من ص230 إلى ص233، وما نقله عن أقوال بعض الآخرين في القصيمي في هذه الصفحات الأربع احتل الصفحة الأولى وثلاثة أسطر من الصفحة الثانية. وفي الصفحة الرابعة قال كلاماً في القصيمي هو خليط من كلامه هو وأقوال بعض الآخرين فيه. أما باقي الصفحات، فقد أورد فيها قصيدة للقصيمي في مرحلته السلفية يفخر فيها بنفسه، وأورد أربعة أبيات من قصيدة أخرى يفخر فيها كذلك بنفسه في تلك المرحلة، ثم علق عليهما قائلاً: «فانظر - رعاك الله - إلى هذا البائس كيف ارتدَّ بعد إسلامه، وكيف أصبح من جلسائه أصحاب الكفر والغانية والكأس، بل وألّف كتاباً يستهزئ به بالتوحيد وأهله، فتصدى له بعض أهل العلم والفضل وكشف زيفه ورد ضلالته فلله الحمد والمنة».
القصيدة والأبيات التي أوردها وعلق عليها بهذا الكلام، ليس فيها ما زعمه. قد يقول الخراشي مدافعاً عنه إن كلامه هذا يتحدث فيه عن القصيمي في مرحلة ما قبل تأليفه كتابه «هذي هي الأغلال»، وما بعدها مباشرة.
وسأقول إن كلامه تضمّن اتهاماً غير مباشر للقصيمي بأنه من أصحاب الغانية والكأس، وهذا محض افتراء؛ فالقصيمي، كما شهد بذلك عارفوه، كان رجلاً عائلياً ومخلصاً لزوجته، ولم يكن من أصحاب اللهو والمسرات، بل كان جادّاً في اهتماماته، وصارماً في سلوكه إلى حد الزهد والتقشف. وبالنظر إلى مجمل تعليلات أبي عبد الإله الكسيحة، لما سماه «أسباب الانتكاس» أعرف أن قصده بذلك الكلام، أن مجالسة القصيمي لأصحاب الكفر والغانية والكأس أفضت به إلى الارتداد عن الإسلام، وإلى تأليفه كتاباً يستهزئ به بالتوحيد وأهله، كتاباً هو لا يعرف اسمه، فضلاً عن مضمونه!
إنني متأكد أنه في الطبعة الأولى من كتابه لا يعرف اسم كتاب القصيمي «هذي هي الأغلال»، الذي افترى أنه استهزأ به بالتوحيد وأهله. إنه لو كان يعرف اسمه في تلك الطبعة، لكان أتحف قارئه غير المنتكس وقارئه الذي يخشى عليه من الانتكاس باسمه.
وللحديث بقية.