&علي العميم

&

إنَّ معلومات صاحب كتاب «من أخبار المنتكسين: مع الأسباب والعلاج» عن القصيمي، حتى في مرحلته السلفية، تتدنى إلى درجة الصفر. انظر إلى ما يقول عنه في تلك المرحلة: «وجرد قلمه في الرد على مخالفي أهل السنة والجماعة (!)، وعلى القادحين في الإمام محمد بن عبد الوهاب، فردَّ على الدجوي في كتابه (البيارق النجدية) (!)، وألف كتابه (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم) وله كتاب عن الوثنية يقال (!) إنه أروع ما كتب في هذا المجال».
هو يعرف من أسماء كتب القصيمي على نحو صحيح اسم كتاب واحد، هو كتاب «الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم»!
الكتاب الأول الذي ذكره ليس اسمه «البيارق النجدية»، بل اسمه «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية». ويبدو لي أنه لا يميز بين لفظي بيرق وبيارق ولفظي برق وبروق، ولا يدرك الغاية البلاغية في هذا العنوان التقليدي الذي صنعه القصيمي على طريقة الأقدمين، فثمة طباق أو تضاد في المعنى بين لفظ بيارق ولفظ ظلمات، وثمة سجع في لفظي نجدية ودجوية. و«البروق النجدية» في هذا العنوان يقصد بها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، والظلمات الدجوية يقصد بها اتجاه الشيخ يوسف الدجوي الصوفي. أما المصاب الأفدح ففي الكتاب الثالث، فهو يعتقد أن الكتاب الثالث «الصراع بين الإسلام والوثنية» كتاب عن الوثنية! ولا يعرف أنه رد على كتاب «كشف الارتياب عن أتباع محمد بن عبد الوهاب» للإمام الشيعي محسن الأمين العاملي. والموسومون بالإسلام في هذا العنوان هم أهل السنة، والموسومون فيه بالوثنية هم الشيعة!

كتاب القصيمي «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية»، الذي تسبب في فصله من الدراسة في جامع الأزهر، هو صد جدالي قوي بارع حاذق عنيف للحملة الدينية على الدعوة الوهابية، وعلى الدولة السعودية الوليدة، التي شنها عضو هيئة كبار العلماء الشيخ يوسف الدجوي في مجلة «منبر الإسلام» (مجلة جامعة الأزهر)، بتحفيز من شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري (1929-1935)، وبمباركة من الملك فؤاد. فالظواهري كان من رجال الملك فؤاد، ومن أنصاره ومناصريه في جامع الأزهر.
كتاب القصيمي الثاني «شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام»، الذي ألفه بعد أشهر من صدور كتابه الأول، وفي العام نفسه (عام 1931)، والذي صدر فيه قرار مجلس إدارة الأزهر بفصله من الدراسة، كان استمراراً ومواصلة لذلك الصد العنيف الذي بدأه في كتابه الأول، ورداً قاسياً - كما يقول صديقه المحامي إبراهيم عبد الرحمن - على قرار الطرد، وعلى الشيخ الدجوي.
وفي الصفحة الأولى من هذا الكتاب، ذكر القصيمي ثلاثة تنبيهات، يهمنا منها في السياق الذي سأوضحه تنبيهين، وسأبدأ بالتنبيه الثاني.
قال في التنبيه الثاني: «أصرِّح بأن شيوخ الأزهر الذين أوجه إليهم انتقادي في الرسالة هم الجامدون على البدع الفاشية، والطعن في متبعي السلف وأنصار السنة، وأشهرهم الشيخ يوسف الدجوي والشيخ مصطفى الحمامي، الذين ما فتئوا يسعون لتفريق المسلمين، ولإيذاء جماعة الموحدين، خدمة لأغراض معلومة ليست شريفة ولا محمودة في هذه الساعات الحرجة، والأوقات العصيبة، التي حاجة المسلمين فيها إلى الاتفاق أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب. وأعتذر عن إطلاق كلمة شيوخ الأزهر أو علماء الأزهر في بعض مواضع النقد بأنه من إطلاق العام وإرادة الخاص».

وقال في التنبيه الأول الذي هو تبيان لسبب تأليفه الكتاب: «إن المراد من تسمية الكتاب أن ما ينشره الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر الرسمية من شرعية البدع التي هي زيادة في الدين، وما نشره الشيخ مصطفى الحمامي في مصنفه الجديد في ذلك، وأجازه وأمضاه له عشرات من علماء الأزهر، وسكوت الآخرين عن الرد على المجلة والكتاب، يوهم قراءهما أن علماء الأزهر متفقون على ذلك، وليس الأمر كذلك. فقد بلغني أن بعض الذين وضعوا أسماءهم وأختامهم على كتاب الحمامي أجازوه بالوصف، ولم يقرأوه». والشيخ مصطفى الحمامي هو مصطفى أبو سيف الحمامي، من علماء الأزهر، وكان يعمل خطيباً في مسجد السيدة زينب، وهو مثل الشيخ الدجوي صوفي. فلقد كان من أتباع الطريقة الخلوتية الصوفية. وهو إضافة إلى هذا شاعر ديني صوفي وعظي، وكان ينظم أشعاراً للتعريف بمصنفاته!
ومصنفه الجديد الذي لم يذكر القصيمي اسمه هو كتابه «غوث العباد ببيان الرشاد». والنسخ المتوفرة من هذا الكتاب هي نسخ طبعته الثانية التي صدرت عام 1950، وكان قد توفي عام 1949. وقد كُتب على غلاف هذه الطبعة: «تأليف حضرة صاحب الفضيلة ملك البيان وحامل لواء البرهان المغفور له الأستاذ الشيخ مصطفى أبو يوسف، أحد علماء الأزهر الشريف، وخطيب المسجد الزينبي سابقاً»!
ويقصد القصيمي بعبارة أجاز الكتاب وأمضاه عشرات من علماء الأزهر التقاريظ التي حازها الكتاب، والتي نشرت في خاتمة الكتاب تحت عنوان «شهادة العلماء الأعلام». وقد أورد المؤلف ثلاثة نصوص منها في مقدمة كتابه، مع صدور طبعته الأولى في 22-5-1931. هذه التقاريظ التي كان ثلاثة منها نصاً مكتوباً، وكثير منها - كما عبر القصيمي - إجازة وإمضاء، تعامل المؤلف معها على هذا النحو:
«وبموافقتهم لي على ما تضمنته تلك المباحث، أصبح ذلك أمراً مجمعاً عليه من علماء الإسلام»!
وفي الطبعة المتوفرة، وهي الطبعة الثانية، ذكر المشرفون على الطبعة، وهم لجنة من العلماء برئاسة الشيخ أحمد سعد علي، في خاتمة الكتاب، أنهم اختصروا شهادات العلماء الأعلام من تقريظ الطبعة الأولى نظراً لضيق المقام. أو ربما لأن بعض الذين وضعوا أسماءهم وأختامهم على كتاب الحمامي - كما نبه القصيمي إلى ذلك - لا يتفقون مع ما قاله المؤلف في كتابه. والأسماء التي أبقوها هي عشرة أسماء، في مقدمتها اسم الشيخ يوسف الدجوي. وكان من ضمنها اسم محمد بن محمد زباره اليمني، الذي عرّف به المؤلف بأنه أمير القصر السعيد بصنعاء اليمن، واسم الخصم اللدود للدعوة الوهابية محمد زاهد الكوثري الذي عرّف به المؤلف بأنه وكيل المشيخة الإسلامية بالآستانة سابقاً.
وتقدم نصوص التقاريظ نص أملاه الشيخ يوسف الدجوي (هذا الشيخ كان ضريراً)، وقد عرّف المؤلف به بأنه رجل العلم والتحقيق والصفاء ولسان الدفاع عن الإسلام. وتلاه تقريظ كتبه شيخ سوري من دير الزور، هو الشيخ محمد سعيد العرفي، الذي عرّف المؤلف به بأنه شيخ علماء وادي الفرات. أما المقرظ الثالث فهو الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، الذي عرّف المؤلف به بأنه فخر الأقطار المغربية وخادم العلم بالحرمين الشريفين ونزيل مصر الآن.
ومن هذه المعلومات التي استللتها من كتاب «غوث العباد بيان الرشاد»، في طبعته الثانية، نعرف أن العلماء الذين دعاهم المؤلف إلى تقريظ كتابه ليسوا كلهم من مصر، فهناك من هو من اليمن، وهناك من هو من سوريا، وهناك من هو من شنقيط. وربما لو أني عثرت على طبعة كتابه الأولى، لوجدت أسماء من أقطار إسلامية أخرى.
إنه لم يكتفِ بعلماء مصر، لأنه كان يريد أن يصل إلى نتيجة، وهي أن علماء الإسلام قاطبة مجمعون على ردّه على الدعوة الوهابية، فيما يخص موقفها العقدي المدين بشدة لعقائد التشفّع والتوسل بغير الله، وتقديس الأولياء، والاعتقاد بكراماتهم الخارقة.

في كتاب القصيمي الثالث «الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم»، الذي أصدره عام 1934، اتبع محاجة داخلية محرجة في سجاله مع الأزهر، كما في الفصل الثاني عشر والفصل الثالث عشر، وذلك لقطع الطريق على خطة الرد على الوهابيين التي كان وراءها شيخ الأزهر الشيخ محمد الظواهري، والتي تهدف إلى إخراج الوهابيين من الإجماع الإسلامي. في مقدمة الفصل الثاني عشر، الذي عنونه بـ«آراء طائفة من عظماء المصريين في التوسل»، قال: «نكتب لك هنا أقوال طائفة من رجال مصر المعدودين في التوسل الذي تدافع عنه مجلة الأزهر. ولتعاقبهم - بعد ذلك - مشيخة الأزهر - إن شاءت - بالتكفير والحرمان من جنة الله وغفرانه، فذلك شيء لا يعنينا؛ وإنما يعني المصريين أنفسهم، فهم الذين لهم أن يغاروا على أدبائهم وشعرائهم ويحاموا دونهم». وبعد أن أورد أقوالهم في هذا الفصل، كان مما قاله في الفصل الذي تلاه، والذي عنونه بـ«خطاب إلى الشيخين الظواهري والدجوي»: «ما تقولون في رجالات مصر الذين قدمنا لكم أنهم ينكرون توسلكم ويهجونه، ويوافقوننا على حكمنا فيه، وقد كتبنا مقالاتهم بألفاظهم؟ فما تقولون في الشيخ محمد عبده؟ أتقولون إنه وهابي كافر؟ إذن، يغضب المصريون عليكم جميعاً، لأن الشيخ محمد عبده عندهم هو الإمام المقدم؛ وما تقولون في السيد المنفلوطي الكاتب المحبوب للمصريين جميعاً؟ وقد ذكرنا لكم قوله، فهل ترونه مارقاً؟ وهل تكفرونه كما تكفرون الوهابيين؟ إذن، يقوم المصريون جميعاً في وجهكم، بل ما تحسبون شعراء مصر كشوقي وحافظ، وقد أثبتنا لكم أنهم يزدرون توسلكم ويذمونه أقبح الذم؟ بل ما تعدون الأستاذ المحقق محمد فريد وجدي مدير مجلتكم ورئيس تحريرها، وقد تقدم قوله في التوسل؟ أتعدونه وهابياً مكفراً للمسلمين؟ فما بقي معكم حينئذٍ؟ ولا تقولوا حينئذٍ إن المسلمين - ما خلا الوهابيين - يوافقوننا على توسلنا، بل قولوا إن المسلمين كافة وهابيون، ما عدا جملة من أشياخ الأزهر القدماء وبعض الدهماء».
موضوع هذا الكتاب أشمل مما أوردت. وموضوعه تلخصه رسالة أرسلها القصيمي إلى الباحث في فكره أحمد السباعي، ونقلها إلينا إبراهيم عبد الرحمن في كتابه «خمسون عاماً مع عبد الله القصيمي»، وسأكتفي بإيراد سطورها الأولى. يقول القصيمي عن كتابه: «إنه

تحديد وتفصيل صيغ الخلاف بين من كانوا يسمون بالوهابية والآخرين المخاصمين لهم، ثم انتصار للوهابيين ضد خصومهم أو مخالفيهم، وتدليل على أسباب هذا الانتصار».
هذا الكتاب هو آخر كتاب له في سجاله الديني السلفي لصد الحملة الدينية على الدعوة الوهابية التي قادها الشيخ يوسف الدجوي في جامع الأزهر، ومن ورائه شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري، والتي قامت لسبب ديني صوفي، ولسبب سياسي ديني، وهو سعي الملك فؤاد إلى أن يكون خليفة المسلمين بعد إلغاء هذا المنصب في تركيا، وأن يكون له - بحكم هذا المنصب الذي يسعى إليه - سيادة سياسة ودينية على أرض الحرمين الشريفين.
وفي العام الذي ألّف فيه هذا الكتاب، ألّف كتاباً آخر، هو خارج مدار هذا السجال، وهو كتاب «مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها».
كل هذه الاستفاضة في هذا الحديث لأقول لأبي عبد الإله صالح بن مقبل العصيمي، صاحب كتاب «أخبار المنتكسين»، أن الذين رد القصيمي عليهم مباشرة، كالشيخ الدجوي والشيخ الظواهري والشيخ الحمامي، كانوا من أهل السنة والجماعة، وليسوا - كما قال - من مخالفي أهل السنة والجماعة. إن القصيمي في حمأة سلفيته الحادة، وفي ذروة انهماكه في كسر نصال خصوم الوهابية - يا أبا عبد الإله هداك الله وأصلحك - لم يقل بمثل ما قلت.. وللحديث بقية.