مجاهد عبدالمتعالي

تتألم إذ تحضر محاضرة عن سؤال مفاهيمي صنع عطالة حضارية، لكن الأكاديمي لم يستطع أن يواصل محاضرته (الرائعة والعميقة) دون أن يختمها ببعض الكلمات الوعظية التي يعتصرها اعتصارا، ليستخرج منها دلالات فكرية تتناسب ومحاضرته الرزينة دون الحاجة إلى إدراج ابن تيمية والقرآن في خاتمتها (ثنائية ابن تيمية والقرآن فيها تماهٍ لا إرادي مع ثنائية نبينا محمد والقرآن)، لكي يمرر جهده العقلي الرائع، رغم أن السؤال الذي كشف عنه وعرّاه، اشتغل عليه تفكيكا عميقا للدلالات والمفاهيم اللغوية والسياقات التاريخية في التراث، لكنه رسب اضطرارا كحيلة طبيعية لأي إنسان عاقل قرأ عن مأساة نصر حامد أبوزيد في بلد مثل مصر.

المؤلم أن أغلب زملائه الأكاديميين المعقبين على محاضرته لم يلمسوا جوهر مشروعه الكبير والعميق، بل كانوا على ضفاف وهوامش ما طرحه، وبعضهم -كما يظنون- داخلوا مداخلات (أكاديمية رزينة) مليئة بالآيات، ولا ينقص مداخلاتهم هذه سوى أن تترجم إلى اللغة الإنجليزية ويستمع لها أكاديميون من العيار الثقيل من كل العالم، ليؤكدوا أن ما سمعوه لا علاقة له بالأكاديمية وشرطها المعرفي الدقيق، بقدر علاقتها بتقاليد الإخوان المسلمين التي اندرست بها عقول كثير من أكاديميينا للأسف عن غير قصد، أكثر مما استنارت بالمنطق العلمي الصارم، والمحاكمات العلمية الرزينة، التي لا علاقة لها في ميدان الأكاديمية بتلاوة الآيات في ثنايا النظريات، وفق رطانة علموية تعيش (شهوة الميكرفون) أكثر من (شغف المعرفة)، متناسين أن الإخوان المسلمين وكذبة (أسلمة العلوم) هي أزمة في تاريخ الحضارة، رسخها الإخوان المسلمون باعتبار مهاجميهم علمانيين، غافلين عن أن (أسلمة العلوم) إشكال قديم قبل سبعة قرون تم طرحه ببعض التفصيل في مقالٍ بعنوان (أسلمة العلوم انتكاسة في التاريخ العربي)، ورد فيه كلام الإمام الشاطبي في الجزء الثاني من كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) إذ يقول: (المسألة الرابعة: أنه ليس كل العلوم لها أصل في القرآن كما زعم كثير من الناس، مع مناقشة الشارح لهذه النقطة)، إذ يقول في متن كتابه ما نصه: (أن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين: من علوم الطبيعيات، والتعاليم والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح...)، وكان الإخوان المسلمون والسرورية يلقنون أبناءنا أن من لا يقبل أسلمة العلوم هو علماني والعلماني (كافر)!؟!!، فهل الإمام الشاطبي كذلك؟ (توفي عام 790 هـ).

دون العقل لم ولن يكون هناك حرف ولا كتابة ولا (اقرأ)، ومن يأبى إعمال عقله فسيبقى رهين ما اندرس به وجدانه من أيديولوجيا إخوانية وسرورية، تعرفها من لحن القول فيها عبر خطبة الحاجة التي يلوون بها ألسنتهم في كل تمرين خطابي يستفتحون به قولهم، تحول مع التقادم إلى جزء من طقوس الكلام وصولا إلى (محاولة) افتتاح (أكاديمية تفسير الأحلام) حصلت المحاولة فعلا عام 2010.

إذا كانت الأكاديمية عندنا أخرجت من صفوفها موفق الرويلي الذي يدقق (أوراق) الشهادات ويفضحها، فكم نحتاج من أكاديمي كموفق الرويلي لتدقيق (معاني) الشهادات وحقيقة أصحابها في ميدان العلم والمعرفة، لنرى علماء لا مدرسين في الجامعات.

أحد الأكاديميين العارفين اكتفى لرفع العتب بمقال شامل يتيم بعنوان (المشكلة الكبرى في جامعاتنا الناشئة)، ومثقف طليعي يرتب ندوة تناقش أكاديميا آخر عن (تحرير العقل المسلم في عصر ما بعد الحداثة)، ثم يأتي مقال (المعرفة والاختراق الأيديولوجي) كشمس كاشفة لمن أراد الرؤية بلا تورية، لكنها جميعا لم تأخذ الزخم الكافي الذي كانت تأخذه تغريدة أو خاطرة لأحد (الشيوخ الدكاترة)، الذين زفوا أبناء البسطاء للقاعدة وداعش، وزفوا أبناءهم والمتعاطفين معهم للدراسات العليا، ليعيدوا إنتاج ذواتهم عبر (الأكاديميين الجدد).

ربما المشكلة ليست في الأكاديمية، وليست في موفق الرويلي الذي يحاول حراسة الأوراق الأصلية من المزيفة، بل في مئات الحاملين لأعلى الشهادات الحقيقية في القدرة على السباحة في بحار المعرفة الإنسانية وعلومها، وتراهم يؤلفون عشرات الكتب عن أدق تفاصيل السباحة، ثم يفجعك أنهم يعانون فوبيا الغرق ولو في شبر ماء.

ختاما: همسة أخيرة في أذن بعض أبناء الوطن من الأكاديميين (خصوصا الشباب الذين لم تطلهم لوثة الإخوان المسلمين والسرورية): حاولوا الاستفادة من عقول تشارككم الهمّ الأكاديمي في الجامعة، جاؤوا بطلب جامعاتكم من بلدانهم، فلا تعرفوا قدر بعضهم إلا بعد وقت طويل من فراقهم أرض الوطن، لا تضطروهم لنسقكم الفكري الذي رعته الصحوة، فتجعلونهم يعتسفون معارفهم الأصيلة الرزينة في سبيل حلول وسط يوازنون فيها ما بين الشرط العلمي الأكاديمي والشرط الاجتماعي (الشعبوي) الذي يعيشون وسطه بكم كزملاء مهنة تدريس، لا كرفاق عمال معرفة، بكل ما في كلمة (عامل معرفة) من مجد عقلي وكفاح فكري.


&