الحسين الزاوي

يثير الحضور العسكري الفرنسي في إفريقيا لاسيما في الساحل ودول غرب إفريقيا، نقاشات متعددة على المستويين الإقليمي والدولي، حيث ينظر الأفارقة في أغلبيتهم الساحقة إلى هذا الحضور بكثير من القلق، ويرون أنه يسهم في تعقيد الأوضاع الأمنية ويعطي مبررات أيديولوجية للمجموعات المسلحة لتكثيف نشاطاتها في المنطقة، كما يتعامل قسم كبير من الأوروبيين مع مبررات الوجود العسكري الفرنسي في القارة السمراء بكثير من التشكيك، ويعتقدون أن ادعاءات فرنسا المتعلقة بالمخاطر التي يشكلها الوضع المضطرب في دول الساحل على الأمن القومي الأوروبي، تتسم بكير من المبالغة، والشيء نفسه يؤكده الجانب الأمريكي الذي لا يرى أن الأوضاع الأمنية في دول إفريقيا جنوب الصحراء، يمكنها أن تؤثر بشكل جدي في الأمن الأوروبي.

وقد عادت مؤخراً مسألة الوجود العسكري الفرنسي إلى الواجهة بعد مقتل 13 جندياً فرنسياً في مالي في 26 نوفمبر/‏تشرين الثاني الماضي، وبعد إعلان وزيرة الدفاع الفرنسية عن إرسال 600 جندي إلى المنطقة ليرتفع عدد الجنود المنتشرين في سياق عملية برخان من 4500 إلى 5100 جندي من أجل دعم قوات «مجموعة 5 ساحل» التي تضم عسكريين من النيجر، ومالي، وبوركينافاسو، وموريتانيا وتشاد، والتي تأسست بمبادرة فرنسية من أجل محاربة المجموعات الإرهابية المسلحة في المنطقة.

وتشير الإحصائيات الرسمية في هذا السياق، إلى أن مصالح فرنسا الاقتصادية مع دول الساحل تعتبر جد متواضعة إذا ما قورنت بالمخاطر التي يتعرض لها الجنود الفرنسيون في المنطقة، فمن بين 54 دولة يشار إليها من طرف المصالح المختصة بأنها ذات أولوية كبرى بالنسبة لقطاع التجارة الخارجية، هناك فقط 8 دول توجد في إفريقيا، 4 منها تقع جنوب الصحراء، وهي نيجيريا وكينيا وجنوب إفريقيا وساحل العاج، بينما توجد الدول الأربع الأخرى في شمال إفريقيا، وهي المغرب والجزائر وتونس ومصر، وتمثل دول الشمال وحدها 50% من حجم التجارة الخارجية لفرنسا مع إفريقيا. وبالتالي، فإنه ومن بين هذه الدول الثماني ذات الأهمية التجارية بالنسبة لباريس، نجد أن ساحل العاج تعتبر الدولة الوحيدة التي تدخلت فيها فرنسا عسكرياً.
وعلاوة على ذلك، فإن حصة إفريقيا من الصادرات الفرنسية قد تراجعت إلى النصف خلال عشرين سنة الماضية، حيث انتقلت نسبة الصادرات من 11% سنة 2000 إلى 5% من مجموع الصادرات سنة 2017، وانتقلت فرنسا من أول مصدر أوروبي نحو دول القارة السمراء حتى سنة 2016، إلى ثاني مصدر بعد ألمانيا، كما أن باريس تواجه مشاكل كبرى من أجل المحافظة على وجودها العسكري في دول الساحل، وتحصل على دعم لوجستي من طرف شركائها الأوروبيين الرئيسيين، خاصة من طرف ألمانيا وإسبانيا. وتقدم واشنطن في سياق متصل دعماً كبيراً للقوات الفرنسية في مجال الاستطلاع والمراقبة الجوية والتجسس الإلكتروني بنسبة تصل 50%، وفي مجال النقل والإمداد بنسبة تصل إلى 40%.
ويتضح من خلال ما تقدم أن هناك تخبطاً فرنسياً واضحاً في ما بتعلق بالسياسة الخارجية الفرنسية في إفريقيا، نتيجة لغياب العقلانية السياسية والاقتصادية في تسيير مصالح فرنسا مع القارة السمراء، حيث تخضع التحركات الفرنسية في مجملها لاعتبارات أيديولوجية وثقافية في المقام الأول، ومن السهولة بمكان أن يلاحظ المتابعون للسياسة الخارجية الفرنسية، أنها تعمل في كثير من الحالات في مسارات لا تخدم مصالحها الاقتصادية في إفريقيا.

ويصل التخبط الفرنسي إلى مستوياته القصوى عندما يتعلق الأمر بتعامل باريس مع ملفات الذاكرة، ومع كل ما يتصل بماضيها الاستعماري في إفريقيا، خاصة في الجزائر، حيث ترفض النخب السياسية والفكرية الاعتراف بجرائم فرنسا في القارة السمراء، ويبدي اللوبي المرتبط بالمرحلة الاستعمارية مقاومة شرسة لكل المحاولات الهادفة إلى فتح نقاش جدي بشأن موضوع الذاكرة التاريخية، وفضلاً عن ذلك، فإن باريس لا تنظر إلى مستعمراتها السابقة بوصفها دولاً مستقلة وذات سيادة.