حسن حنفي

يظل الوعي التاريخي ذا أهمية قصوى، سواء في عصر ابن خلدون بعد القرون الهجرية السبعة الأولى، أو في هذا العصر بعد القرون السبعة التالية له، فالوعي التاريخي هو أساس الوعي السياسي، ودون وعي تاريخي قد تقوم الفعاليات السياسية بلعب أدوار أجيال مضت، فتقع في «السلفية»، أو بدور أجيال قادمة فتقع في «العلمانية»، الوعي التاريخي هو الذي يجعل الفعاليات السياسية تقوم بدورها الخاص في اللحظة الحاضرة، وهو الذي يحدد في أي مرحلة من التاريخ تعيش الأمة، وقد كانت الغاية من قصص الأنبياء بلورة الوعي التاريخي، وتأسيس الوحي كمسار في تاريخ الإنسانية، من البداية وحتى النهاية، من التطور إلى الاكتمال.

ولا يكتفي الوعي التاريخي بوصف الحضارة العربية الإسلامية في دورتها الأولى قبل ابن خلدون، ولكنه يضم إليها الدورة الثانية بعده، واستشراف المستقبل في الدورة الثالثة التي بدأت إرهاصاتها في الظهور، بعد أن حاولت حركات الإصلاح الديني إنهاء الدورة الثانية والاستعداد للدورة الثالثة، وما زلنا في هذه المرحلة، مرحلة الانتقال من عصر الشروح والملخصات والموسوعات في العصر العثماني إلى مرحلة الإبداع الفكري الثاني، في عصر حركات التحرر الوطني، على الرغم من تعثرها وضياع نتائجها إلى حركة التحرر الوطني الثانية لمواجهة مظاهر الهيمنة الجديدة والهجمة الاستعمارية الثانية في عصر العولمة.
ويتطلب ذلك الهدف الاستمرار في بيان أهمية علم التاريخ، وضرورة الانتقال منه إلى فلسفة التاريخ، والوعي بالتاريخ، وكيفية دراسة التاريخ، والكشف عن قانون التقدم والتأخر، خاصة أن الحضارة الأوربية المجاورة، تزهو بأنها هي التي وضعت فلسفة التاريخ.

والتاريخ هو العمران، أي التاريخ الإنساني وسط التاريخ العام، فالتاريخ بلا إنسان يعيه ليس تاريخاً، الإنسان موجود تاريخي لأنه هو الذي يعي قوانين التطور، وهو الذي يقوم بتعمير الأرض وترك الآثار فيها، وآثاره تدل على وعيه، فالتاريخ هو بالضرورة تاريخ إنساني، ولا يوجد تاريخ طبيعي دون تاريخ بشري، كما لا توجد جغرافيا طبيعية دون جغرافيا بشرية، تقصها وترويها.
والاجتماع البشري ضروري؛ إذ لا يقوم العمران على فرد واحد، بل هو عمل جماعي ضد ما سماه ابن سينا وابن طفيل «حي بن يقظان» أو ابن باجه «تدبير المتوحد»، وهو ما أكده الفارابي من قبل في بداية «آراء أهل المدينة الفاضلة»، من أن الإنسان مفطور على التعاون.

ولا يكون التعاون فقط بين الأفراد بل أيضاً بين الجماعات داخل القطر الواحد، وبين الأقطار داخل الإقليم الواحد، وبين الأقاليم على وجه المعمورة، والتحول من التعاون الإقليمي إلى التعاون الدولي، فلا مكان للحياة المنعزلة للأقطار خوفاً من المشاركة مع الأقطار المجاورة، التي تشاركها نفس الإقليم، ولذلك فعزلة العرب عن العالم ضد منطق التاريخ والعمران، وعدم تأثيرهم في مسار أحداثه انكفاء على الذات، وضيق في الرؤية، وانكسار للوجود في عصر يُؤسس فيه «المحافظون الجدد» الإمبراطورية الأميركية الجديدة، كما تنهض آسيا في نظريات ريح الشرق، وتعود إلى أميركا اللاتينية روحُها الثورية وخياراتها الوطنية ورفضها للتبعية وأشكال الهيمنة الجديدة باسم العولمة، وصراع الحضارات، ونهاية التاريخ، وعالم القرية الواحدة، وثورة الاتصالات، ومجموعة الثمانية، والعالم الحر، وقيم الغرب.