مالك عبيد


اعتاد العالم على أن الأزمات الاقتصادية والحروب الكبرى هي التي تضع حجر الأساس لنشوء نظام عالمي جديد، على اعتبارها لحظات مفصلية، تفرض تغيراً جذرياً في خارطة العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن خلال طبيعة الأزمة، وحجم تأثيرها، يجد المجتمع الدولي نفسه مضطراً بالنهاية للجلوس إلى طاولة النقاش، والعمل على صياغة الحلول وفقاً لإرادة مراكز القوى الجديدة.

ولعل أزمة بحجم فايروس كورونا، لن تقل بتأثيرها عن الأزمات الاقتصادية والحروب الكبرى، وإن اختلفت التفاصيل بعض الشيء. فالملامح الأولى والأرقام، تدل على أن انتشار الفايروس، بات أسرع مما هو متخيل، وأن التداعيات أكثر تعقيداً وخطورة من حجم التوقعات. ولا سبيل أمام العالم في مكافحة الفايروس، إلا من خلال تنسيق دولي عالي المستوى، خصوصاً بعد أن تجاوزت الأزمة حدود الدولة الواحدة، لتشمل العالم بأسره دون استثناء. الأمر الذي وضع النظام الدولي برمته على المحك.

لم يسبق لمفاهيم النظام العالمي الجديد أن دخلت اختباراً حقيقياً، أصابها بالارتباك والتشتت، كما يحدث اليوم. فمظاهر الضعف والعجز لدى الكثير من دول العالم الغربي أفقدتها الصورة النمطية بالتميز عن الكثير من دول العالم الثالث. وكان ارتفاع عدد المصابين، والضغط المتزايد على النظام الصحي، مروراً بافتقار مراكز البحث والمختبرات للحلول الناجعة دليلاً على حجم المأزق الذي تعيشه تلك الدول. ووجدت مظاهر العولمة نفسها، على حين غرة، في مواجهة حقيقية مع نفسها. واصطدمت مفاهيم وأدوات «اللا حدود» بشكل مباشر مع فايروس يحمل في طياته وتداعياته كل مفاهيم وملامح «اللا حدود». فأصبحت القرية الكونية مهددة بوباء قادر على الانتقال من أقصاها إلى أقصاها في غضون ساعات، مستغلاً السيارات والطائرات والبواخر وحتى الهواء.

مأزق نظام العولمة اليوم، ورمزيته لم يقفا عند حد مواجهته لذاته، من خلال مواجهته لأزمة بحجم فايروس كورونا فحسب، بل إن المأزق قد تجاوز ذلك بأبعاد كثيرة، فتحولت ذات الأدوات المجسدة لنظام العولمة، إلى عوائق تحول دون مكافحة الفايروس. وأصبحت مفاهيم التبادل التجاري الحر وسهولة التنقل وسرعته، بحد ذاتها عوامل مساعدة على انتشار المرض لا حصره. الأمر الذي قلص خيارات الكثير من الدول في مكافحة المرض، بأن جعل الحل بحتمية تعطيل أبرز أدوات وركائز الربط والتدفق والاختلاط وحرية التجارة. وانتقل الحال على إثر ذلك من مرحلة اكتمال الحلم بعالم منفتح على بعضه البعض، يملك كل أدوات إذابة الحدود، وإلغاء مركزية الدول، إلى الارتداد نحو واقعية نقيضه، تؤكد بتفاصيلها على الضرورة المركزية ومحلية السلطة. وما بين ليلة وضحاها، عاد العالم إلى العمل وفقاً لخارطة الأقطار المتعددة، والكيانات المنفصلة عن بعضها البعض، بحدود سياسية وجغرافية لا بد من إغلاقها، وإيقاف الحركة فيما بينها. حيث لجأت كل دولة لتقنيات التجزئة، كإجراءات احترازية من أجل السيطرة على هذا الوباء والتخفيف من آثاره بعيداً عن الدول الأخرى.

وسط هذا الكم الكبير من المخاوف، ما تزال الآمال بالقضاء على الفايروس كبرى، إلا أن حجم المتغيرات التي ستطرأ فيما بعد على مستوى العلاقات البشرية والنظام العالمي الجديد لن تكون بالشيء البسيط، سواء عاد نظام الحياة لسابق عهده أم ذهب إلى عهد جديد، وشكل سياسي مغاير لما اعتدنا عليه. ولعلنا هنا أمام تساؤل مهم يدور حول حتمية انصهار شعوب العالم في بوتقة حضارية واحدة تتوحد من خلالها البشرية في كيان حضاري متجانس يمثل قمة التطور الذي وصل إليه الغرب كما يراها فوكوياما. لأن التجربة اليوم أظهرت أن المسؤولية الاجتماعية لدى بعض الأنظمة أكثر فاعلية من اللذة الذهنية للأفكار الكبرى.. ولنا بالمملكة نموذج مشرق.