مازلنا نبحر في ليل بهيم عاتم، تتلاطمنا أمواج بحر وباء كورونا وتداعياته الصحية والاقتصادية، وكل ما نعول عليه هو صمود قاربنا حتى يسلخ الله عز وجل النهار من ذلك الليل المظلم بأشعة واضحة المعالم يتكشف الطريق بها، وإذ إننا منهمكون في عملية الاطلاع على آراء الخبراء فيما ذهبوا له من تحليلات وتنبؤات، وقعنا على تحليل الدكتور والخبير الدولي طلال أبو غزالة، الذي تنبأ قبل سنوات بحدوث أزمة اقتصادية في عام 2020، ليظهر أبو غزالة مجددًا بعد اجتياح كورونا، على بعض القنوات العالمية وآخرها على قناة روسيا اليوم (RT) ليتحدث بإسهاب عن الأزمة الاقتصادية، متنبئًا حربًا عالمية تعقبها، بل أنه حدد موعدها لتكون نهاية هذا العام أي قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، إذ سيعلن بحسب قوله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحرب على الصين.

ويعني كلام أبو غزالة نشوب حرب عالمية ثالثة وانهيار المنظومة الدولية التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي تمخض عنها تأسيس الدول المنتصرة فيها منظمة هيئة الأمم المتحدة، كجمعية عامة، ومجلس الأمن الدولي كذراع تنفيذي لها، محتفظة تلك الدول بعضوية دائمة لها في المجلس مدججة نفسها بحق النقض «الفيتو».

إن أطروحة الدكتور طلال أبو غزالة، لا تخلو من إسقاط تاريخي على الوضع الحالي، فهو يستند كما يستند الكثيرون بطريقة أو بأخرى على ما سبق الحرب العالمية الثانية من أزمة اقتصادية «الكساد العظيم» في عام 1929، والتي أعقبها حرب عالمية ثانية ضروس دمرت أوروبا والعالم.

لا يمكن أن تأتي الأمور على مثل هذه الإسقاطات التاريخية، فللبشر وما يحملونه من خبرة ومعرفة بالتجارب التاريخية دور في ترويض الأحداث لتجنب تكرار الأخطاء، كما أن الولايات المتحدة والصين وكذلك الدول الثلاث الأخرى يعتبرون أكبر المستفيدين من النظام الدولي القائم، فهذه الدول بالرغم من أي خلاف فيما بينها إلا أنها تحرص على تقاسم المصالح تجنبًا للصدام العسكري المباشر، والذي إن حدث فيعني حربًا عالمية وانهيار المنظومة التي عملوا على تأسيسها.

أتت جائحة كورونا كحدث عظيم مسّ بضر الدول العظمى، لذا ذهب الكثيرون إلى افتراضية نشوب حرب عالمية ثالثة تودي إلى تغيير النظام الدولي، إلا أن هذا التغيير ليس بالضرورة يأتي متعقبًا حربًا عالمية، فتَحَدّث داهية السياسة الأمريكية وزير خارجيتها الأسبق هينري كسنجر، في مقالة له في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، يدعو كسنجر فيها قادة دول العالم إلى العمل بشكل متاوزٍ فيما بين العمل على مكافحة الفايروس، والعمل على إطلاق مشروع موازٍ لنظام عالمي جديد لما بعد كورونا.

ويبقى السؤال ها هنا: على ماذا سيستند هذا النظام العالمي الجديد؟ ومن هم اللاعبون الأساسيون فيه؟ وما هي صلاحياتهم؟ ونخص هنا مجلس الأمن وحق النقض الفيتو الذي تملكه الدول الخمس دائمة العضوية، إذ إن النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، ذهب بسياساته المتعاقبة إلى مراحل أدت إلى حالة من العقم في منظمة الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها، ويبقى قرار المملكة العربية السعودية عندما رفضت عضويتها الدورية في مجلس الأمن الصرخة الأعلى دويًا في وجه هذا العقم، فهناك فشل ذريع لهذا النظام في حلحلة مشاكل الأرض سياسية كانت أو عسكرية أو غيرها، حتى جعلت منها مشاكل تنتج مشاكل أخرى، ليست القضية الفلسطينية وحدها مثالاً صارخًا، حتى استغلها كل معتوهي العالم وساروا بها إلى غير شرف جوهرها، واليوم على كذلك منوال القضية السورية والليبية.

عندما نتحدث عما سيتم تغييره أو ما يجب تغييره في النظام الدولي يجب علينا أن نتمعن في ما تم العمل به من سياسات عندما قُدم المتطرف على أنه معتدل، والشاذ على أنه قاعدة، ومن الذي روج لتلك المفاهيم وخلط أوراقها، ومن هي الدول التي تبنت تلك السياسات المائعة فكريًا وقيميًا، فقيمة حياة الإنسان تسمو أيًا كان عرقه، وليس اليهود وما أصابهم في أوروبا بأعز من أي إنسان آخر.

عندما نتحدث عن تغيير المنظومة الدولية وآلياتها ومنظماتها، يجب علينا النظر إلى من تسلل لتلك المنظمات وإلى أي عقائد فكرية متطرفة ينتمي وسار بقضايا كثيرة إلى حالة مزرية إنسانيًا بسبب اصطفاف سياسي أو فكري أو عقائدي.

وعندما نتحدث عن تغيير النظام العالمي، يجب علينا مراجعة سياسات العولمة وما أنتجته من شركات كونية غولية، لتسود بسياساتها بطريقة أو بأخرى على سيادة الدولة الوطنية، وذهبت بالنظام الرأسمالي إلى حالة متوحشة.

وبالعودة إلى الأوضاع، وإذ إننا نعتقد بأن أزمة اقتصادية عالمية قادمة ولا نعرف حجمها بالتحديد، إلا أننا نأمل أن تكون محدودة يتعافى منها العالم سريعًا، وفي الوقت الذي نستبعد نشوب حرب عالمية مدمرة كما ذهب إليه بنظرة متشائمة الدكتور طلال أبو غزالة وآخرون غيره، إلا أنه ستكون بكل تأكيد هناك مراجعات للكثير من سياسات المنظومة الدولية، وكذا حركة الفكر العالمي واتجاهاته، فمن الفطرة أن تعالج الطبيعة نفسها.