كان العراق، وبخاصة بغداد العاصمة، من بوابات دخول بعض السلع الحديثة والآلات الموسيقية إلى الكويت وإلى الدول الخليجية، ويبدو أن أوروبا لم تكن المصدر الوحيد لكل ما كان يصل إلى أسواق العراق نفسها من مختلف السلع الحديثة، فالباحث د. خالد السعدون يؤكد في كتاب "شذرات بغدادية"، أن القنصلية الأميركية في بغداد كانت مطلع القرن العشرين "حريصة على الترويج للسلع الأميركية في أسواق بغداد".
(ص113)
ويقول إن القنصلية كانت تتلقى الكثير من الاستفسارات من المنتجين الأميركيين عن إمكانية تسويق منتجاتهم، ولهذا حوت تقارير القنصلية الأميركية معلومات طريفة عن تطور الطلب على هذه السلع بعد أن كان محدوداً، وعن دخول سلع جديدة لم يكن لها سابق عهد في سوق بغداد.
كانت بغداد قد عرفت أول عرض سينمائي في يوليو 1909 كما يقول أحد الباحثين، ويقول د. السعدون إن بغداد عرفت أول عرض سينمائي، بموجب وثائق القنصلية قبل ذلك بعام، وذلك على يدي مواطن أميركي من أصل يوناني يدعى "ميشيل مانتريس" الذي وصل مع آلة العرض إلى بغداد في أكتوبر 1908، وبدأ منذئذ تقديم عروضه للجمهور، وقد اعتبر القنصل الأميركي نشاطه هذا مفيداً، "لأنه يؤدي إلى زيادة الاهتمام بالشأن الأميركي في هذه المنطقة التي كانت عمليا لا تعرف شيئا عن الولايات المتحدة ومنتجاتها".
وقد فتحت خطوة الأميركي اليوناني "مانتريس" الطريق لوصول آلة عرض أخرى استوردتها شركة أجنبية عاملة في بغداد، وقد رد نائب القنصل الأميركي على أحد الاستفسارات في يونيو 1914 أن آلة العرض الوحيدة الموجودة في بغداد تملكها شركة "بلوكي وكري" Blockey, Cree and co، وأنها تعرض فيها الأفلام للجمهور كل ليلة، وأضاف القنصل أن مؤسسة "جوزيف عيسى وشركاه" طلبت مؤخرا آلتين أخريين من أوروبا، كان من المتوقع حينها وصولهما إلى بغداد خلال عدة أيام.
كانت إيران قد سبقت العراق في هذا المجال، وتقول موسوعة ويكيبيديا إن تاريخ السينما في إيران يرجع إلى عام 1900، يوم كان الشاه الإيراني "مظفر الدين شاه" في زيارة لإحدى الدول الأوروبية وأحضر معه أول آلة تصوير في البلاد، وفي عام 1904 افتتحت أول صالة عرض للسينما بإيران. وتضيف الموسوعة أن "بالاك" هي أول صالة سينمائية أحضر إليها الجهاز الناطق في إيران، و"تقع هذه الصالة في نهاية شارع إسطنبول بالقرب من تقاطع فردوسي في مركز العاصمة الإيرانية طهران، وكانت هذه الصالة تقع تحت فندق "بالاس" بالضبط، وبعد مدة أصبحت تدعى بسينما القصر، وبعدها سميت "سينما طهران"، واليوم أصبح ذلك المكان يدعى سوق الكويتيين"!
وتقول الموسوعة الإلكترونية إن تاريخ السينما التركية يرجع إلى تصوير حدث وقع في أياصوفيا عام 1914 وهو "انهيار النصب الروسي"، ويقال إن فن السينما في تركيا بدأ بتصوير زيارة السلطان محمد رشاد الخامس الى مناطق يونانية عام 1911، ولا تذكر الموسوعة في الموضع نفسه إنشاء أول دار عرض للسينما في تركيا، وربما كان افتتاح ذلك بعد تأسيس الجمهورية عام 1923، وإنتاج أول فيلم تركي باسم "نوري بابا" خلال الحرب العالمية الأولى عام 1917. (موقع الجزيرة).
ومما يدل على المكانة المتميزة للسينما المصرية أنها سبقت هؤلاء جميعاً، إذ تقول المراجع إن أول عرض سينمائي في مصر- كما ذكرنا في مقال سابق 31/ 3/ 2016، كان يوم 5 نوفمبر 1896 في بورصة طوسون بالاسكندرية، ثم في القاهرة بعد أيام، وافتتحت دور العرض السينمائية الأولى خلال العام التالي في المدينتين.
(انظر "وقائع السينما المصرية" علي أبو شادي، القاهرة، 2004)
ونعود الى "شذرات" د. السعدون عن دخول السلع الترفيهية والموسيقية إلى العراق وبغداد ويقول:
"إن استقرار بعض الأوروبيين في بغداد فتح الطريق أمام استيراد بعض أدوات الموسيقى الغربية، فقد كتب القنصل الأميركي في بغداد في السادس عشر من آذار (مارس) 1912 مبينا وجود قرابة ثلاثين جهاز بيانو في بغداد بحوزة مقيمين أوروبيين، جميعها من منشأ إنكليزي أو ألماني، وذكر وجود وكالة تجارية لبيعها في بغداد، وأضاف أن بعض تلك الأجهزة التي سوقت كانت من منشأ أميركي، حيث جرى استيراد خمسة وعشرين جهازا من هناك سنة 1911، وبيع الجهاز الواحد منها بسعر تراوح بين ثلاثين وخمسين دولارا أميركيا، ولم يقتصر الطلب على تلك الأجهزة على سوق بغداد فقط، بل كان هناك طلب عليها في البصرة أيضا أدى إلى فتح مكتب لتسويقها هناك قبل خمس أو ست سنين. وذكر القنصل استيراد ما قيمته قرابة أربعة آلاف وأربعمئة دولار أميركي من أجهزة الحاكي والأسطوانات خلال سنة 1911، كانت حصة الولايات المتحدة منها ثلاثة آلاف دولار حيث وصلت مستورداتها عبر ميناء الإسكندرية، أما باقي المبلغ فقد توزع بين إنكلترا وألمانيا، واستطرد القنصل للقول إن أغلبية الطلب متوجه للأسطوانات المسجل عليها مختارات عربية وتركية".
(ص115)
وتضمنت رسالة القنصل شكوى من تأثير الطقس الحار، وربما الشمس خلال الصيف على الأسطوانات، بما يؤدي إلى تميعها وخرابها حين تستخدم، ولا يعتبر القنصل هذا الانصهار والتقوس في الأسطوانات الغنائية مشكلة! فما إن يبرد الجو، يقول، حتى "تعود للتصلب من جديد دون أن يترك ذلك نتيجة على محتوياتها على ما يبدو".
ومن أدوات الترفيه التي لاقت شعبية بين العراقيين "لعب الورق" أو التي تسمى "الكوتشينة" أو "الجنجفة"، فورد في موسوعة خالد عبدالقادر الرشيد في اللجهة الكويتية- الطبعة الجديدة 2014 عن "الجنجفة"- أنها "هي ورق اللعب، والكلمة هنا فارسية من قانجفة والجمع جناجف"، ويشير خالد الرشيد إلى "قاموس فرهنك عميد" وهو مرجع معروف من قواميس اللغة الفارسية، والكلمة موجودة في قواميس فارسية أخرى مثل "فرهنك نوين بيوسنة"، لكل من عباس ومنوجهر آريان كاشاني، الولايات المتحدة 1986: "كنجفة: ورق بازي". (ص 222)
ويوردها قاموس "فرهنك كزيدة فارسي" لغلام حسين إفشار وآخرين، طهران 2005، ويورد القاموس الإملاء اللاتيني للكلمة ganjafe، ويقول المؤلف إن الكلمة قديمة في الاستخدام، وهي تصف نوعاً من ألعاب الورق (نوعي بازي باورق).
ما الكمية التي كان العراقيون يستخدمونها من "ورق اللعب" آنذاك؟ ومن أين كانوا يستوردونها؟ يتبين من رسالة للقنصل سنة 1913 ردا على استفسار شركة أميركية منتجة لها محدودية تسويق ورق اللعب في سوق بغداد، وأنها تستورد حاليا من النمسا والمجر، وكانتا دولة واحدة قبل الحرب العالمية الأولى، ومن إيطاليا والهند... ونادرا من إنكلترا.
وورد للقنصل استفسار من شركة أميركية عن سوق الساعات، فذكر "أن عدد الساعات المنبهة المستوردة إلى بغداد لا يعد كبيراً، وقدر القيمة الإجمالية لما تستورده بغداد من الساعات وساعات الحائط سنويا بما يتراوح بين خمسة وستة آلاف دولار. وظهر من تقرير للقنصلية أن عدد الساعات المستوردة إلى بغداد خلال سنة 1912 بلغ ثلاثة آلاف وتسعمئة وسبعين ساعة قدرت قيمتها بنحو 11176 دولاراً، استوردت كلها من سويسرا، من بينها سبعون ساعة مطعمة أو مطلية بالذهب وعددها 250 ساعة فبلغت قيمتها 792 دولاراً.
ومن اللوازم التي ظهرت الحاجة إليها في التنقل حقائب السفر! فعامة السكان كانوا في تنقلاتهم يضعون أمتعتهم القليلة في صُرر- جمع صرة- يسمونها "بقجة"، أو في "خرج" مصنوع من نسيج صوفي خشن، ولكن الحقائب الحديثة بدأت تظهر في أسواق بغداد، كما لاحظ القنصل، ولكن الطلب ظل محدوداً، وقد شرح القنصل سبب قلة الإقبال في رسالة لأحد المهتمين بمحدودية حركة السفر في المنطقة، واقتصار سفر الكثيرين "على التوجه لزيارة الأضرحة الدينية، وهي لا تستلزم استخدام الحقائب"، ولكن الحقائب كما ذكرنا بدأت تظهر في السوق، ومنها حقائب على شكل صندوق معدني مصنع في الهند، سعر الواحدة منها ما بين دولار ونصف وأقل من خمسة.
ويقول د. السعدون إن القنصل الأميركي نقل في نهاية تقريره عن "عزيز عزو" أحد مستوردي الحقائب في بغداد، توقعه "أن يؤدي إنجاز مشروع سكة حديد برلين- بغداد، بعد أربع سنوات إلى زيادة كبيرة جدا في مبيعات الحقائب في بغداد، لأنه سيزيد دون شك في إقبال الناس على السفر، وبذلك ستنشأ حينئذ سوق رائجة للحقائب الغالية الثمن في بغداد".
سنرى في المقال القادم بدايات الإقبال على "الكماليات" الأخرى!
التعليقات