قبل خمسة عشر عاماً انسحب الجيش السوري من لبنان. كانت تلك بداية أحداث كبيرة تجاوزت لبنان إلى سوريا نفسها حيث نظام عاش منذ قيامه في العام 1970 على تصدير أزماته إلى خارج. هذه المرّة ارتدّت هذه السياسة على النظام نفسه الذي لم يستوعب في أيّ وقت الأبعاد التي ستترتّب على اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وأنّ الأمر ليس مجرّد "رذالة"، أي حدث عابر، على حدّ تعبير إميل لحّود رئيس الجمهورية وقتذاك. كان إميل لحّود يعتقد أنّ الناس ستعود إلى أعمالها سريعاً وكأنّ شيئا لم يكن. وهذا يفسّر التعليمات التي أصدرها بوجوب تنظيف مسرح الجريمة على وجه السرعة. وهو عمل ما لبث أن توقّف نتيجة تدخّلات داخلية ودولية في آن.

جاء الانسحاب السوري بعد أقلّ من ستة أسابيع على اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005. كان الانسحاب بمثابة بداية رحلة السقوط للنظام السوري. سارعت إيران، عبر "حزب الله" إلى ملء الفراغ الأمني والسياسي الذي خلّفه خروج سوريا عسكرياً وأمنياً وسياسياً من لبنان. ليس معروفاً، إلى الآن، ما الذي قصده تماماً حسن نصرالله الأمين العام لـ"حزب الله" بعبارة "شكراً سوريا" في الخطاب الذي ألقاه يوم الثامن من آذار 2005 في بيروت دفاعاً عن النظام السوري وعن وجوده في لبنان. هل كان يعني بالفعل ما فهمه الناس من ظاهر الخطاب... أم كان يشكر النظام السوري على تغطيته جريمة اغتيال رفيق الحريري التي أدّت، على أرض الواقع إلى حلول الوصاية الإيرانية مكان الوصاية السورية – الإيرانية؟

يتكشّف، بعد خمسة عشر عاماً على الحدث، الذي كان نتيجة مباشرة لاغتيال رفيق الحريري، حجم الأخطاء التي ارتكبها بشّار الأسد الذي لم يخسر سوريا ولبنان فحسب، بل لعب دوراً محورياً في تدمير البلدين على رؤوس أبنائهما. لم يدمّر لبنان على رأس رفيق الحريري كما توعّد الراحل الكبير، بل دمّر سوريا على رأسه هو وعلى رأس السوريين أيضاً. لم يدرك بكلّ بساطة خطورة تحوّله إلى أداة إيرانية وما الذي يمكن أن تؤدي إليه جريمة محدّدة لعب الدور الأساسي في تغطيتها وحتّى المشاركة فيها.

شيئا فشيئاً، منذ انسحاب جيش النظام من لبنان، بدأت سوريا تفلت من بين يدي بشّار الأسد وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي أصبحت فيها سوريا رجل المنطقة المريض. جرّت معها لبنان إلى هذا الوضع بعد ابتعادها عن العقلانية ووضع بشّار الأسد نفسه في خدمة إيران. قبل 26 نيسان 2005، كان الجيش السوري في لبنان. في 26 نيسان 2020، صار "حزب الله" في داخل سوريا حيث يدافع مباشرة عن النظام وعن بشار الأسد. أكثر من ذلك، صار الرئيس فلاديمير بوتين يأتي الى دمشق ويستدعي بشار الأسد إلى مركز تجمّع القوات الروسية في العاصمة السورية في اليوم التالي لاغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني بُعيد وصوله من دمشق إلى مطار بغداد.

تبدو كلّ الحسابات السورية خاطئة منذ توريث حافظ الأسد لبشّار الأسد وقيام نظام عائلي ما لبث انّ دبت الخلافات بين أفراده، وهو ما حاصل الآن بين آل الأسد وآل مخلوف. بين بشّار وزوجته أسماء وماهر من جهة، ورامي مخلوف وإخوته من جهة أخرى.

لم يكن الخروج من لبنان ثمناً كافياً. هذا ما أكّدته الاحداث وهذا ما أكّده الواقع. الثمن هو الخروج من سوريا أيضاً طال الزمن أم قصر

بعد 15 عاماً وشهر ونصف شهر على اغتيال رفيق الحريري وقبل أسابيع قليلة من صدور حكم المحكمة الدولية المتوقّع قبل نهاية شهر أيّار الجاري، هناك حدثان لا بدّ من استعادتهما. الاوّل قول رفيق الحريري لي شخصياً مساء السبت الواقع فيه 12 شباط 2005 في أثناء نقاش دار في بيته في قريطم: "من سيقتلني مجنون. هل تعتقد أنّ النظام السوري مجنون؟". كان جوابي، بما معناه، أنّي كنت أعتقد أن النظام عاقل إلى أن فرض التمديد لإميل لحود في مجلس النوّاب اللبناني على الرغم من صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559، وهو قرار اعتبر نائب الرئيس فاروق الشرع في حينه أنّ سوريا "غير معنيّة به".

أمّا الحدث الثاني، فكان زيارة قام بها آصف شوكت لليبيا وذلك عشيّة القرار الذي اتخذه مجلس الأمن بانشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في أيّار2007. التقى آصف شوكت، الذي كان مسؤولاُ عن شعبة المخابرات العسكرية، أحد مساعدي الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي الذي كانت علاقته بالإدارة الأميركية بدأت تتحسّن إثر تخلّصه من مخزون أسلحة الدمار الشامل الذي كان لديه. طلب آصف شوكت وساطة ليبيا مع الأميركيين والأوروبيين من أجل إغلاق ملفّ اغتيال رفيق الحريري وتفادي قيام المحكمة الدولية. قال بالحرف الواحد للمسؤول الليبي: "دفعنا ثمن الجريمة (جريمة اغتيال رفيق الحريري). خرجنا من لبنان. ما الذي نستطيع أن نفعله أكثر من ذلك؟".

لم يكن الخروج من لبنان ثمناً كافياً. هذا ما أكّدته الاحداث وهذا ما أكّده الواقع. الثمن هو الخروج من سوريا أيضاً طال الزمن أم قصر. السؤال: ما الثمن النهائي الذي ستدفعه سوريا وما الثمن الذي لا يزال يدفعه لبنان؟