عثمان حسن

«إن هذه أقصر من شهقة وزفيرها، فلا تغرس بها سوى بذور الحب».. و«القلب جوهر، والقول عرَض، القول زائل والقلب هو الغرض».. ما ورد سابقاً، هو ملمح ضئيل من الأقوال والمأثورات المنسوبة للشاعر والفقيه المسلم جلال الدين الرومي، وهو من أبرز الأسماء التي اخترقت وجدان الكثير من مجايليه، فهو مؤلف مبدع، اشتهر بصوفيته، كما جاء على لسان المؤرخين العرب، ويعدّ صاحب الطريقة المولوية، كما عُرف باسم «مولانا جَلَال الدِّين الرُومي». هو محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي، شاعر وعالم بفقه الحنفية وفقه الخلاف والعديد من العلوم المختلفة، وهو أحد المتصوفين الكبار، ولد في بلخ بأفغانستان في عام 604 هجرية، ثم انتقل مع أبيه للعيش في العراق حين كان في الرابعة من العمر، تعلم في المدرسة المستنصرية، ورافق والده إلى مدينة قونية في عهد الحكم السلجوقي التركي، تميز بالفقه والعلوم الإسلاميّة، فدرّس في قونية عام 628 هجرية، ويذكر أنه تفرغ للتصوف في عام 642 هجرية، بعد أن ترك أثراً أدبياً خالداً توزع في مجالات الأدب والشعر والعلوم الفقهية.

في توصيف الكثيرين ممن كتبوا عن سيرة هذا العالم الجليل، فهو من الشعراء الذين تغنوا بالحياة وجمالها، وهو غناء حمل في طياته معاني روحية سامية طافحة بالنور وبالوجود، هو صاحب الأشعار الصوفية التي تغوص في أعماق النفس البشرية، فالرومي هو شاعر كبير يفيض حباً وحكمة، يحلق بسامعيه إلى الأعالي، في رحلة عشق لخالق الكون، باحثاً عن محبة خالصة من العرفان والوجد الصوفي.

ارتبط اسم الرومي بشمس الدين التبريزي، وهذا الأخير ترك أثراً طيباً وكبيراً في حياته فأدخله -أي الرومي- عالَم التصوّف، الذي انقطع له.

الرومي يجوب العالم

أثر جلال الدين الرومي بشكلٍ كبير في الثقافة الغربية، أكثر من جميع أعلام التصوّف في العالم، وأبهرت قصّته مع التبريزي العالم كله، فديوانه الشهير «المثنوي» يعد من أهم وأشهر أعمال الأدب الصوفي وأكثرها انتشاراً في العالم. وقد وصفه أدباء الغرب بأنه من أعظم أشعار العالم، في عُمْقِ الفكرِ، وابتكار الصور. يقول الرومي عن التبريزي في إحدى الغزليات: أنت سمائي وأنا أرضك /‏ إني مذهول: ماذا قررت لي أن ألد؟ /‏ ماذا تعرف الغرض عن البذرة التي زرعتها أنت؟ /‏ أنت من خصبها أنت الوحيد الذي يعرف ما تحمل بداخلها.

لقد كان التبريزي بالنسبة إلى الرومي بمثابة الشمس التي لولاها ما سطع ضوء القمر، وأكثر من ذلك، فقد تجاوزت آثار الرومي حواجز اللغة والدين والثقافة لتصل إلى شعوب وحضارات مختلفة، ممن رأوا في التصوف طريقة حياة ومزيجاً من الفلسفة والحكمة العملية.

في القرن العشرين، وبفضل جهود طه حسين، عرف العالم العربي والإسلامي جلال الدين الرومي، فانهالت الدراسات لشرح وتحليل كتبه وأشعاره. ليس ذلك فحسب، فقد سبق وتعرف الغرب إلى الرومي في القرن الثامن عشر من خلال كتابه «المثنوي»، عبر الدبلوماسيين والرحالة الذين زاروا الإمبراطورية العثمانية، كما تعرفت إليه الهند من خلال الشاعر محمد إقبال الذي كان يعتبر الرومي مرشده الروحي و«أمير قافلة العشق».

وكان للمستشرقين الغربيين أثر كبير في تعريف العالم الغربي بالرومي، بينهم المستشرق الإنجليزي رينولد نيكلسون، الذي ترجم مختارات من ديوان «شمس تبريز» عام 1898 ونشر ترجمة للمثنوي في 8 مجلدات، وازداد الاهتمام بأدب الرومي في أوائل القرن العشرين، من خلال مستشرقين درسوا ونقلوا أعماله إلى الفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات، ومنهم أيضا الإنجليزي آرثر جون آربري، والألمانية آنا ماري شيميل التي ألفت كتاباً بعنوان «الشمس المنتصرة» يحوي دراسة وتحليلاً لأشعار الرومي. إلا أن التأثير الحقيقي لأشعار الرومي في الثقافة الغربية بدأ مع الشاعر والأديب الأمريكي «كولمان باركس» الذي أخرج أشعار الرومي من النطاق الأكاديمي إلى المستوى الشعبي، فألف مقتطفات شعرية من «المثنوي» نشرت في عام 1976، واستمر في ترجمة أشعاره، فأصدر 8 مجلدات عن الرومي وشعره.

جمال الروح

تميزت أشعار الرومي بنزعة فلسفية ووجودية خاصة، فيها الكثير من التجلّي الروحي، فكانت قصائده كأنها مكتوبة بمداد خاص، صاغتها قريحة باحثة عن المعنى الخالص، وتتضح فيها جماليات التصوف والروحانيات بأسلوب فريد، وعن هذه النزعة كتب النقاد: «يتناول الرومي معاني الصوفيَّة، التي تبزغ من نَفْس إنسانيَّة والرومي هنا، لا يمسّ الحياة المادّيَّة، بل يحلّق في سماء العالَم الروحيّ، متحدّثاً عن المحبّة الإلهيَّة، التي هي سعادة الإنسان الأبديَّة وكمال الخلود... ومن ذلك قوله:

إن أذعنت للشهوة والرغبة /‏ متَّ شقياً بائساً، فاعلم هذا /‏ تنازل عن كل ذلك لترى جيداً /‏ لماذا أتيت، وإلى أين تذهب /‏ أولئك الذين احترقوا بنار الخريف /‏ قد زهدوا في نعمة الربيع /‏ الآن نخيط الثياب الجديدة /‏ نعلم الدلال والدهاء /‏ يا من يجلس بقلبي، حان الوقت لأن تسكنه .

الرباعيات

تتجلى هذه النزعة في رباعيات الرومي، التي جمعتها الباحثة الفرنسية إيفا دوفيتري ميروفيتش، من كتاب نقلته عن الفرنسية عائشة موماد، حيث الرباعيات من أجمل الأشعار التي نظمها الرومي، والكتاب ترجم إلى العربية وغيرها من اللغات، وميروفيتش ترجمت معظم أعمال الرومي مثل: «فيه ما فيه»، «ديوان المثنوي»، «ديوان شمس تبريز» ثم «الرباعيات» ومنها نقتطف:

إنّ الروح التي ليس شعارها الحُبّ الحقيقيّ /‏ من الخير ألاّ توجد، فليس وجودها سوى عار /‏ كُنْ ثملاً بالحُبّ، فإنّ الوجود كلّه محبّة /‏ قلبك من سيقودك

قلبك من سيقودك نحو عشق قلبك /‏ روحك من سيحملك إلى عشق روحك /‏ لا تتخلّ عن ذيل ثوب غمك /‏ فهذا الألم سيأخذك نحو الدواء /‏ وحيد أنت، إن كنت مع العالم بدوني

مؤلّفاته

لجلال الدين الرومي الكثير من المؤلفات النثرية أبرزها: «المجالس السبعة» و«الرسائل» كما تضمنت أعماله الشعريَّة: ديوان «شمس تبريز» وهو عبارة عن قصائد غزليَّة نظمها لمعلّمه شمس الدِين التبريزيّ، في بحور متنوّعة. وتحتوي على نحو ثلاثة وأربعين ألف بيت. وهناك «الرباعيّات» وعدد أبياتها ثلاثة آلاف وثلاثمئة وثمانية عشر بيتاً مثنوياً، وهو أهمّ مصنفاته الشعرية، وهو ملحمة شعريَّة جاءت في 6 مجلّدات. مات ولم ينتهِ من تأليفها. وفيها يمزج الرومي بين الأساطير والحكايات، بقصد تفسير المذاهب الصوفيَّة.

الثقافة المعاصرة

أثر جلال الدين الرومي في الكتابات المعاصرة، ومن ذلك «قواعد العشق الأربعون» الرواية الشهيرة للكاتبة التركية أليف شفق، التي تربط أحداثها في خطين متوازيين، أحدهما يدور حول علاقة الصداقة التي ربطت بين الرومي وشمس الدين التبريزي، كما تبرز الرواية جانباً من تعاليم وأفكار الرومي الصوفية، وصدرت الرواية في عام 2010م وحققت نجاحاً مدوياً.