سعد الصويان

قبل سنوات كانت طموحاتي بسيطة وأحلامي صغيرة ومتواضعة لا تتعدى شخصي والناس من حولي، ولم يكن يهمني متى أودّع هذه الحياة الرتيبة. إلا أنني في الآونة الأخيرة بدأ ينتابني إحساس غريب بالتفاؤل وحب الحياة وصرت أصحو كل صباح وأنا أترقب خبرا جديدا ينعش آمالي ويشعل فيها قبس حياة جديدة. بدأت تكبر أحلامي وتتسع طموحاتي لتشمل الوطن كله. أصبح الوطن محط اهتمامي وصرت أتابع بشوق بالغ إنجازاته المتوالية المبهجة والتي جرفت معها إحساسي الفردي وحولته إلى إحساس مجتمعي، إحساس وطني.

هذه شهادة لا بد أن أدلي بها بعد عمرِ ناهز السبعين عايشت فيه تحولات مرت بي من أيام السواني والتنقل على الدواب في الأزقة الترابية والعلاج بالكي حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. خلال سنوات مضت، كانت مسيرة التطور مسيرة رتيبة لا تكاد تلحظها، ثم فجأة بدأت القفزات النوعية والإنجازات التنموية المتسارعة تتوالى على المستويين المادي والتشريعي، وبدأنا نسمع بوضوح صوت المواطن والمواطنة على حد سواء، وبدأنا نقترب من تحقيق أحلام لم نكن منذ الأمس القريب نجرأ حتى على البوح بها، أعني حرية الفكر والمعتقد. دع عنك هذا وأجبني على هذا السؤال: من كان منا يحلم يوما أن السعودية ستتحول إلى بلد سياحي منفتح يفد إليه الأجانب من كل حدب وصوب وبمنتهى السهولة والأريحية. ولا تستهينوا بهذا القرار الذي أقل ما يقال عنه إنه قرار مفصلي في تاريخ السعودية. السياحة ليست مجرد وسيلة لتحقيق عوائد مادية بأرقام فلكية، علما بأن هذا أحد مقاصدها. السياحة تعني، في المقام الأول، الانفتاح على العالم وعلى الشعوب وعلى الثقافات الأخرى. انتهى العصر الذي كان فيه رجال الهيئة يبُخّون مواد حارقة على سيقان النساء الأجنبيات اللائي يرتدين ثيابا تظهر العَقِبين. انتهى عصر المتطوعين الذين يشنون غارات ليلية على الحي الدبلوماسي رجاء ما عند الله. انتهى عصر الستائر الخانقة التي كان النادل يطبقها عليك كل ما ذهبت مع أسرتك للاستمتاع وتناول وجبة شهية في أحد المطاعم. ومن لم يعاصر تلك الفترة فليرجع لعمود الأستاذ عبدالله بخيت في جريدة الجزيرة والذي يوثق تلك الفترة أدق توثيق.

السياحة ستعرّف الناس على بلدنا المضياف بتاريخه العريق وحضاراته المذهلة وطبيعته الجميلة وناسه الطيبين. إذا جاء السواح من مشارق الأرض ومغاربها وأقاموا بيننا وتفاعلوا معنا وتعرفوا على مجتمعنا وطبائعنا وعرفونا على حقيقتنا فإنه لن يكن من السهل بعدها على الأبواق المغرضة أن تنهش في لحمنا ويصدقها الناس. لن تمر بعدها عزيزي المواطن بالتجارب المذلة في دول الغرب ولن ينظر إليك خاتم الجوازات في مطار هثرو أو مطار كندي بقدر غير قليل من الازدراء والريبة والتعامل الفج. لن تضطر من الآن فصاعدا، كما اضطررت أنا مرات ومرات، إذا سألك محدثك أين تقع السعودية أن تقول له غرب مصر أو جنوب العراق. من الآن فصاعدا لن يقول لك الناس حينما تعرّفهم على نفسك: آه أنت من بلد البترول، بل سيقولون: أنعم وأكرم، أنت من بلد الحضارات والتاريخ. السياحة سوف تدفعنا نحن قبل غيرنا إلى التعرف على أنفسنا وعلى بلدنا. وفوق هذا كله لن نضطر من الآن فصاعدا إلى شد الرحال بحثا عن المتعة والترفيه بل سنجدها في وطننا. كم كنت أتمنى لو أن الأموال التي صرفتها مع أبنائي في ديزني لاند أو في أهرام الجيزة وغيرها كنت صرفتها هنا، إذا لكنت جمعت بين المتعة والافتخار ببلدي، ولَـتَعزز الانتماء للوطن عندي وعند أبنائي.

كانت أصعب أيام حياتي وأحلكها تلك الأيام التي قضيتها أستاذا في الجامعة، فقد عانيت شخصيا من لجمي عن ممارسة طريقة ومنهجية التدريس الناجعة وعن تدريس المواد التي كنت أرى خليقا بطالب الجامعة أن يدرسها. ومُورس علي وعلى بعض زملائي ضغطا هائلا لأسلمة المناهج مهما كانت هذه المناهج ومهما كان زيف هذه الطريقة. إلا أن الأدهى والأمَرّ والأثقل على النفس أن خريجي الثانويات الذين يسجلون عندنا في الجامعة كنا نستلمهم بضاعة عاطبة، إذ ليس لديهم أدنى فكرة لا عن العلم ولا عن التعلم، ورؤوسهم محشوة فقط بالحلال والحرام والمكروه. كانت عقولا مغسولة ومعقّمة تماما ضد ملكة التفكير والحس النقدي والتأملي. لم أكن أتصور في تلك الأيام العصيبة أن كلمات مثل «فلكلور» و«أنثروبولوجيا» و«الحداثة» ستصبح يوما من الكلمات المتداولة والدارجة في لغتنا، وأن التلفظ بها لن يُردف بعبارة «والعياذ بالله». هذا مؤشر لا يستهان به على بُعد واتساع الهوة الحضارية التي ردمناها بهذه السرعة الفلكية وهذه المدة الوجيزة. والمستقبل يعد بالكثير الكثير، فهنيئا لشبابنا بما يعدهم به وطنهم من مستقبل مشرق زاهر. وكلما انخرط شبابنا في تحقيق هذا المستقبل الموعود وساهموا في تحقيقه كلما اختصروا مسافة الوصول إليه وكلما كان أقرب للتحقيق.

هذه الإنجازات العظيمة التي تحققت لوطننا والمزيد الذي سيتحقق منها في المستقبل المنظور سوف يلجم أفواه الحاقدين الذين دأبوا على تعييرنا بأننا مجرد بدو ورعاة إبل. ومع ذلك، سنظل أًوفياء وفخورين بالإبل، رفيقنا الأثير الذي أعاننا على تحمل شظف العيش ومشقّات بيئتنا الصحراوية القاسية. كانت الإبل خير معين لنا في شدتنا وسنكون خير حافظ لها في رخائنا. ولا ننس فلقد مرت علينا دهور وقرون كانت أمنا النخلة ورفيقنا البعير قوام حياتنا، ومن يساوره أدنى شك حول أهمية الإبل في حياتنا الماضية فليرجع إلى مقدمات القصائد الجاهلية والنبطية. يكفينا منها أنها كانت السبيل لنشر ديننا ولغتنا في أصقاع الأرض زمن الرسالة، وأنها كانت السبيل لتوحيد مملكتنا على يد الملك عبدالعزيز بعدما أتت عليها العوادي ومزقتها الحروب والمجاعات.