يمينة حمدي

بدلا من أن يطالب التونسيون الغنوشي بـ"تصحيح" طريقة تفكيره أو يحاولون إعادة توجيهه، ربما يتوجب عليهم أن يفكروا أولا وقبل كل شيء، في المرجعيات الإخوانية التي يُحتمل أن تكون قد ساهمت في بلورة أفكار هذا الرجل، والتي من الصعب أن تتغير بمرور الوقت.

يكتسب القادة عموما، ثقة شعوبهم حين يلتزمون بوعودهم السياسية، ويفقدون شعبيتهم ومكانتهم عندما يتصرفون برياء، وتبدر منهم مواقف ازدواجية.

المثال الأخير، ينطبق على الغالبية السائدة من “التيارات” المتصارعة داخل حركة النهضة الإسلامية، ممن أبدوا عند توليهم الحكم في تونس نوايا حسنة للعمل لصالح الشعب والمصلحة الوطنية، فيما صوّر زعيم الحركة راشد الغنوشي نفسه على أنه منقذ للبلاد وقائد الحكامة الرشيدة، وخاطب ودّ التونسيين بشعاراته الأخلاقية الفضفاضة وخطاباته المنمقة التي تغطي على جميع الحسابات الذاتية والعقائدية، ويبدو أن هدفه من كل ذلك هو استغلال الظرف المرتبك الذي مرت به تونس آنذاك بعد سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي وتجييش عواطف التونسيين، بهدف فرض أجندته الإخوانية في مشروع سياسي مرتبط بخطط التنظيم الدولي للإخوان، من دون أن يسعى إلى استيعاب مُختلف شرائح المجتمع التونسي وفقا لما هم عليه، لا كما يودّ أن يراهم. فقد الغنوشي تدريجيا الثقة في الداخل وفشل في استقطاب المستثمرين من الخارج، مثلما تسبب في خسارة تونس لدعم عربي خصوصا من دول الخليج الغنية، عندما فضل العلاقة مع تركيا وتبنى فلسفة الرئيس رجب طيب أردوغان الساعية لإعادة مجد الإمبراطورية العثمانية.

وعود النهضة وشعاراتها البراقة، لم تترجم على الأغلب إلى أفعال وممارسات حقيقية على أرض الواقع السياسي والاقتصادي، كما لم يعكس أداء من تولوا مناصب وزارية وإدارية عليا مشاغل كافة التونسيين، أو يلبّوا تطلعات المستثمرين، بل على العكس انصب اهتمام معظمهم على تحسين أوضاعهم، بدلا من الاهتمام بحال البلاد والعباد، وتلك حقائق يلمسها التونسي على الأرض بشكل يومي، وليست مجرد تصور أو مؤامرة يمارسها خصوم النهضة في البيئة السياسية التونسية، كما يزعم الخطاب السياسي للحركة نفسها كتعلّة للتغطية على فشلها السياسي، الذي اتسم على مدار السنوات الماضية بالارتجالية، وتفضيل المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية العليا.

حين يقيس التونسيون أين أصبحوا وإلى أين يتجهون، تتحطم الكثير من الآمال على صخرة العنف والتطرف الديني اللذين أصبحا مستشريين في البلاد من بعد صعود النهضة، وتردّي الوضع الاجتماعي والاقتصادي والغموض الذي يحيط بمستقبل البلاد السياسي، رغم أن ثورة تونس كانت نقطة تحول تاريخية حقيقية، في تاريخ الشعوب العربية. لكن لسوء حظ التونسيين تمّ التفريط بهذه الفرصة الثمينة من قبل حركة النهضة وبقية الكتل والأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة منذ عام 2011.

بإلقاء نظرة عامة على الإحصائيات الاقتصادية والاجتماعية المتاحة اليوم لجميع المراقبين في الشأن التونسي، نكتشف بيسر الإفلاس السياسي للتيار النهضوي، الذي لم ينجح في الخروج بتونس من النفق الاقتصادي المظلم، وبقيت البلاد سجينة لأكثر من تسع سنوات من بعد ثورة 2011، والإطاحة بحكم بن علي، إذ تراجع نمو الاقتصاد خلال السنوات الأخیرة بشكل ملحوظ، وجاءت جميع النتائج دون التوقعات وكذلك تراجع الإنتاج الصناعي الذي يشكل 55 المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

كما أدت خطة النهضة إلى زرع الآلاف من كوادرها في مفاصل الإدارة التونسية حتى تتمكن من تنفيذ برامجها الإخوانية، – والتي أشرف عليها الغنوشي شخصيا – إلى استنزاف القطاع العام وتدميره.

وفي الأعوام التي تولت فيها النهضة الحكم بات الإرهاب والحملات التكفيرية مصدر قلق رئيسي، مما أدى نظريا إلى تدمير صناعة السياحة في البلاد، وخلخلة السيطرة على الحدود، والإضرار بالحريات المدنية.

كما تحول الغنوشي إلى مصدر توتر دائم داخل البرلمان التونسي وخارجه بعد أن منح نفسه حقا لم يخوله له الدستور، وهو القيام وبشكل شخصي بعدة تعيينات داخل البرلمان وإسناد عقود عمل غير معلنة وغامضة تمس بحيادية الإدارة التونسية، من دون أن يطلع أعضاء البرلمان على تفاصيلها، ومنح مؤخرا لمدير ديوانه الحبيب خذر وهو أحد أقاربه تفويضا لتولي بعض مهامه، في مخالفة قانونية واضحة للنظام الداخلي للبرلمان.

وحمّل جزء كبير من التونسيين الغنوشي مسؤولية الإخفاق الذي يرافق عمل البرلمان بسبب خلطه الدائم بين مؤسسات الدولة والقانون وأيديولجيات معينة يراد تمريرها تحت غطاء ديني.

ولا تمتلك النهضة اليوم أيّ خطة ذات مصداقية يمكن أن تعالج مشاكل البلاد، أو تجري بعض الإصلاحات البسيطة، ناهيك عن الإصلاحات الأخرى الأكثر تعقيدا، والمتعلقة بطبيعة النظام السياسي الديمقراطي وسلاسة تبادل الحكم والمحافظة على السلمية.

وأينما يولي التونسيون وجوههم، يرون النهضويين يمسكون بمقاليد الحكم في البلاد، ولا يتورعون عن سحق الأصوات المعارضة، بالتهديد والوعيد ونسج الشائعات حولهم، ولا همّ لهم غير الولع بتضخيم أنفسهم، كما بات لهم أشقاء داعمون من خارج تونس من جماعة الإخوان المسلمين يتدخلون في الشأن الداخلي لتونس، ويملون أفكارهم وأجنداتهم السياسية، وفتاواهم المتشددة على الواقع الذي يزداد صعوبة في البلاد.

ما لا يمكن أن تتخلى عنه حركة النهضة وزعيمها الغنوشي هو الولاء لجماعة الإخوان المسلمين وبراغماتيتها السياسية التي ترى أن “الإسلام هو الحل” لكل مشاكل البلاد، الأمر الذي وضعها خارج المصلحة الوطنية، وبالأخص في ما يتعلق بالملف الليبي والتدخلات التركية المتتالية في الشأن الخاص بالبلاد التونسية.

تبدو النهضة اليوم، كما لو أنها وصلت إلى طريق مسدود، وبلغ السيل الزبى بمعظم التونسيين الذين أصبح لديهم انطباع بأن زعيم الحركة الغنوشي، الذي يتولى أيضا رئاسة البرلمان يجتر – بعناد – ذات ألأفكار المتعصبة، دون أن يقدم سوى تنازلات سياسية غير مؤثرة على مصالحه الحزبية، وهو أمر محبط ويفاقم تأزيم الأوضاع أكثر في تونس، ويدمر علاقاتها الدبلوماسية مع محيطها العربي المعتدل، فضلا عن علاقتها الخارجية.

تاريخيا؛ فسر علماء الاجتماع تبني بعض القادة لمواقف سياسية جامدة لا تقبل الحلول الوسط، بأنه أمر ناتج عن تفكيرهم بشكل غير عقلاني. وأي شخص عقلاني سيقبل بالتأكيد الإقرار بأخطائه التي ارتكبها، مهما افتقر للمعلومات السليمة والكافية.

لكن الغنوشي أثبت اليوم، بما لا يدع مجالا للشك أنه يعمل بعكس هذه النظرية المنطقية. وفي واقع الأمر، من الممكن أن يتبنى بعض السياسيين آراء تتسم بالجمود والتعنت، ذلك إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى الحدود والقيود التي يعمل في إطارهما العقل البشري، فما من إنسان في العالم معصوم تماما من الخطأ.

بالنسبة إلى الغنوشي أقواله لا تفتقر فقط إلى الاتساق وتحفل بالتناقضات، بل الأسوأ من هذا كله صعوبة عدوله عن أيديولوجيته الإخوانية غير المفيدة لطبيعة وتاريخ المجتمع التونسي الذي تميز على الدوام بالانفتاح والاعتدال، فضلا عن كون الغنوشي لا يعترف بأخطائه السياسية وأخطاء حركته عبر التمادي في ارتكاب المزيد منها، والإصرار على الهروب إلى الأمام، بغض النظر عن طبيعة النتائج المتحققة.

فقد سبق أن قال الغنوشي بعد ثورة آية الله الخميني في إيران “سوف تكون الثورة الإيرانية نموذجا يهتدي به كل الأحرار في العالمين الإسلامي والنامي، وتصبح إيران قلعة للحرية ومركز الإشعاع الرسالي في العالم”. من دون أن يتراجع عن ذلك الاعتقاد بشكل معلن وواضح بعد كل المحن التي تسببت فيها إيران للعالم العربي.

بينما ما زال الغنوشي يعتقد أن التجربة الإسلامية التركية ممثلة بالرئيس أردوغان “ناجحة” وأنه من “من الممكن لإسلاميي العالم العربي إنتاج أفضل منها بتحقيق المصالحة بين الإسلام والدولة”.

ولذلك بدلا من أن يطالب التونسيون الغنوشي بـ”تصحيح” طريقة تفكيره أو يحاولون إعادة توجيهه، ربما يتوجب عليهم أن يفكروا أولا وقبل كل شيء، في المرجعيات الإخوانية التي يُحتمل أن تكون قد ساهمت في بلورة أفكار هذا الرجل، والتي من الصعب أن تتغير بمرور الوقت. وتمثل جميعها عوامل تدفعه إلى التصرف بطريقة بعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية التي رفع من أجلها التونسيون شعار “ارحل” ضد بن علي، وهم مطالبون اليوم برفعه ضد الغنوشي أكثر من أيّ وقت مضى.

العرب اللندنية