هناك من وهب نفسه لفعل الخير، وكرَّس حياته له، هناك من يتطوع بسعيه أو وقته أو ماله، وهناك من يتطوع بعمله ومهنته، فيجعل من عمله باب زكاة له ينتشل به الآخرين من صعوباتهم، والدكتور المصري محمد مشالي رحمة الله واحدًا منهم.

نذر نفسه لخدمة المرضى الفقراء فلُقب بـ (طبيب الغلابة)، امتلأ قلبه بالرحمة، فاغتنى جيبه بالزهد، طبب علل البسطاء بحنان أبٍ لا مصل طبيب، عاش ليهدي الصحة للمرضى وليلقن الإنسانية درسًا ثمنه 50 عامًا من العطاء، قضاها في خدمة وعلاج الفقراء، بمقابل مبلغ رمزي وأحيانًا بدون مقابل، وكان يشتري لهم الدواء على نفقته الخاصة، فسكن قلوب الجميع داخل مصر وخارجها.

تلك الروح النقية الطاهرة، قدم جُل ما يملك لخدمة الإنسانية، زهد في الدنيا لعلمه بأن ما عند الله خيرًا وأبقى، ومثله من يستحق أن يقال فيه: قضى حياته في أعمال البر والتقوى.

ويمكن للإنسان أن يكون عظيمًا، ليس بشهرة أو بمنصب أو بمال، وإنما عظيمٌ بعطائه، بين أسرته، أو أهل منطقته التي يعيش فيها أو وطنه، هذه عظمة متاحة للجميع.

(طبيب الغلابة).. نِعم (الرجل) ونِعم (الإنسان) ونِعم (الطبيب)، كان يقول: «أنا أتقرب إلى الله بعمل الخير، ووالدي عاش فقيرًا، ووصاني بالفقراء خيرًا، اكتشفت بعد تخرجي أن والدي ضحى بتكاليف علاجه ليجعل مني طبيبًا، فعاهدت الله ألا أخذ قرشًا واحدًا من فقير أو معدوم، الناس غلابة وأنا من نفس الطبقة، وأنا مش عايز عربية 10 متر، ولا عايز بدلة بـ 10 آلاف جنية، أنا الحمد لله أي حاجة بتكفيني، سندوتش فول وسندوتش طعمية يكفيني، سأبقى في عيادتي أساعد الفقراء إلى أن يتوفاني الله».

ومن المواقف المثيرة لـ (طبيب الغلابة) رفضه للمساعدات التي عرضها عليه (غيث) مقدم برنامج (قلبي اطمأن)، فلولا هذا البرنامج لما عرفنا هذه الشخصية العظيمة، التي لم تقبل مساعدة (غيث) لأنه هو (الغيث).

رحل (طبيب الغلابة) ولم يرحل الأثر الطيب.. رحل مُخلفًا وراءه الإنسانية، ومُحاطًا بالرحمة.. رحل تاركًا جدران تلك العيادة القديمة وهي تلتحف الحزن وتبكي فراقه.. رحل لتبكيه عيون أسعدها، وتحزن قلوب أفرحها، ولتحيطه دعوات كل من سمعوا عنه بأن يغفر الله له ويرحمه.

رحمك الله يا من كنت رحيمًا بعباده، رحمك الله يا حبيب الغلابة، رحمك الله يا من علمتنا دروسًا بالإحسان، رحمك الله يا من حلفت القسم وكنت صادقًا فيه، رحمك الله يا من تحملت قساوة وشقاء الأيام على حساب نفسك، رحمك الله يا من عشت مخلصًا في عملك، رحيمًا بمرضاك، مؤمنًا بقيمك ومبادئك التي عشت بها ومت عليها.

أبكيت العالم يا (طبيب الغلابة) وكم واحدٍ مُعدم وتجبر مصابه، ويدعي لك بمكة وطابه، يا رب اغفر له ويمن كتابه، كم سيفتقدك الغلابة، وكم سيدعون لك الغلابة، وكم سيقصون قصتك الغلابة.

هذا هو نموذج الأبطال، نعم .. مصر الولّادة أنجبتك، وستنجب مثلك دائمًا، ولا أستطيع أن أرى مصر إلا من خلالك أنت وأمثالك من العظماء، فوداعًا يا من كنت تمثل الإنسانية بمعناها الحقيقي، وداعًا يا من تاجرت مع الله خير تجارة، وهنيئًا لك ما حصدت عند مماتك، وهنيئًا لك ما زرعت طوال حياتك، وهنيئًا لك ما غنمت، وهنيئًا لك ما قدمت يداك.

وانتهت أجمل قصة عطاء، رحمك الله يا (طبيب الغلابة)، لن يذكر أحد كيف كنت تعيش، ولكن عرف الجميع بعد موتك لمن كنت تعيش.