في ماراثون التفاوض بين إثيوبيا ودولتي المصب مصر والسودان، تتأكد ضرورات ترميم أية فجوات بين البلدين الشقيقين، وبناء تصورات مشتركة للخطوات المقبلة دون استبعاد سيناريو واحد. ترميم الفجوات شرط التقاء تصورات ومصالح عند الطرق المسدودة.
لم يكن التسويف الإثيوبي بالتعنت الزائد، تعبيراً عن غياب في الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق نهائي وملزم بين الدول الثلاث، كما قيل وتردد في الخطاب الدبلوماسي. كان ذلك مقصوداً ومنهجياً لوضع دولتي المصب تحت سطوة الأمر الواقع بملء خزان السد والتحكم فيما يصل دولتي المصب من مياه دون اتفاق قانوني ملزم.
بعد الملء الأول تحدث المسؤولون الإثيوبيون بصلافة أن نهر النيل أصبح «بحيرة إثيوبية»، لا نهراً دولياً تسري عليه القوانين والاتفاقيات المستقرة. ثبت بيقين بعد طول تفاوض أن الأزمة سياسية واستراتيجية قبل أن تكون فنية وقانونية.
بالمعنى السياسي فإن مشروع السد يكاد أن يكون نقطة الإجماع الوحيدة بين المكونات العرقية الإثيوبية المتنافرة.
هذه مسألة يصعب تجاوزها بالإفراط في حسن النية، التي قد تفسر بأنها ضعف وعجز يغري بمزيد من الاستهانة بأية حقوق لدولتي المصب.
أين المصالح السودانية بالضبط؟.. وفيما تتفق وتختلف مع الحسابات المصرية؟ هذا سؤال إجباري يتجاوز ما هو فني وقانوني إلى ما هو سياسي واستراتيجي.
تكاد المقاربات السياسية أن تغيب عن الملف الوجودي.السؤال الجوهري الآن، وإجابته لا بد أن تكون سياسية أولاً: ما العمل إذا ما قررت دولتا المصب الانسحاب من مفاوضات افتقدت معناها وجديتها واحترامها؟
بتعريف الأزمة فإنها وجودية وتحدياتها الضاغطة تساعد على ترميم الفجوات الماثلة في نظرة كل بلد للآخر، لكنها لا تكفي وحدها.
هناك شكاوى سودانية مستديمة، معلنة ومكتومة، من أننا في مصر لا نعرفهم بما فيه الكفاية. لعقود طويلة استقر في الخطاب العام مفهوم «السيادة المصرية على السودان»، دون التفات إلى أن العالم قد تغير، والسودان تغير، وحل محله مفهوم هو «وحدة وادي النيل تحت التاج المصري» ترتيباً على معاهدة (1936)، التي وقعها الزعيم الوفدي «مصطفى النحاس» مع سلطات الاحتلال البريطاني، قبل أن يحصل السودان على استقلاله في السنوات الأولى لثورة يوليو.
هكذا دأبت أعداد كبيرة من السياسيين والصحفيين المصريين على وصف استقلال السودان عام (1956) ب«الانفصال» دون تدقيق في حمولات الأوصاف وتبعاتها، إذ قد ينظر إلى وصف الانفصال باعتباره إنكاراً على السودانيين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم.
الأسوأ من ذلك - كما يلاحظ المستشار «طارق البشرى» - أنه «لم تكن للحركة الوطنية المصرية منذ مطلع القرن العشرين حركة وحدوية تستهدف توحيد مصر والسودان».
بتعبير الكاتب الصحفي الراحل «يوسف الشريف» فإن هناك أزمة معرفية ب«السودان وأهله».
السودان يجد نفسه الآن معلقاً بين إرث ماضٍ يطل عليه من جديد وتطلع لمستقبل لم تستبين كامل حقائق قوته.
في المراوحة بين نظم حكم مدنية، لم تستقر قواعدها، ولا ترسخت أصولها الديمقراطية، ولا أضفيت عليها نظرة حديثة، ونظم عسكرية تعددت انقلاباتها في أزمان مختلفة بتوجهات متناقضة، وبتكرر فشلها يتبدى حجم الأزمة السودانية منذ الاستقلال حتى الآن.
بالنظر إلى التاريخ السوداني فإن الانتفاضات تتبع الانقلابات. لم يكن «الحراك» الذي زعزع لأربعة أشهر أركان حكم «عمر البشير» نبتاً شيطانياً، فهو تعبير عن طاقة حيوية السودان وأهله، بشبابه ونسائه ومهنييه بأكثر من أية قوة سياسية تقليدية، أو غير تقليدية.
أثناء الحراك الشعبي ضد حكم «عمر البشير» بادرت إثيوبيا بالحركة الدبلوماسية وأعمال الوساطة، حاورت القوى الحية المتحركة، استضافت تفاهماتها، وأشرفت على الصيغة التي جرى التوافق عليها بين «قوى إعلان الحرية والتغيير» والمجلس العسكري، فيما غابت مصر عن المشهد المتحرك بأحلامه ومخاوفه. كان ذلك إضافة لا يستهان بها للدور الإثيوبي جرى توظيفه لمقتضيات المضي قدماً في بناء السد، دون عناية بما يصدر من اعتراضات.
الاقتراب من الملف السوداني بالمبادرة والوساطة الإيجابية، من ضرورات تأسيس شراكة حقيقية في أزمة السد الإثيوبي، وفي أية تحديات أخرى.
بأي نظر جدي لموروث الأزمة السودانية، فإن قضية الحرب والسلام استهلكت أعصاب وقدرات وموارد الدولة، قسمتها ومزقتها وأفقرت شعبها وأشاعت اليأس العام من أي إصلاح، يكاد أن يكون مستحيلاً التطلع إلى تحسين الأحوال المعيشية المتردية والخدمات العامة المنهارة، دون وضع حد للحروب الداخلية.
هذا ملف آخر يستدعي دوراً مصرياً حيوياً يساعد السودان على لملمة جراحه حتى يكون ممكناً أن يلعب دوره شريكاً قوياً في حفظ حقوق دولتي المصب من مياه النيل. لكل شراكة مصير أصولها وقواعدها ووسائلها. هذا ما يتعين علينا أن ندركه هنا في مصر.