اضطرت كافة المصارف في العالم أن تنتهج الاستخدام الرقمي لإنجاز غالبية خدماتها، هذه الخدمات التي كانت على جدول إستراتيجيات بعض المصارف متوسطة وطويلة المدى لم يكن الوضع قبل العام الجاري يستدعي التسرع في تقديمها وتنفيذها لتكلفتها من جهة ولتطلبها خبرات وتقنيات عالية من جهة أخرى. أجل أعلن عنها منذ سنوات قريبة ولكن لم يكن الوضع طارئا للدخول إلى الحياة الرقمية بهذه الكيفية، وإن بدت تطلق بعض المصارف في الخليج منصاتها الرقمية. فالأمر يحتاج قبل تكبد المصارف عناء الجهد والمال لمثل هذه المشاريع أن يثق الناس بجوالاتهم أولاً، تلك التي تتحول بين ليلة وضحاها إلى بنك مصرفي متكامل، أو لسوق إلكترونية عامرة بالسلع الاستهلاكية، كانت الدهشة طاغية على الحقيقة وتقبلها.

قبل هذا العام كان يكفي المصرف فتح صفحة «أونلاين» للمستخدم أو العميل للمصرف للاطلاع على حساباته المالية وكشوفاته ولإجراء بعض الخدمات السريعة كدفع الفواتير والتحويلات البسيطة، الأمر يسير بخطوات ثابتة وببطء، ذلك لأن التشريعات المصرفية ومن ورائها الرقابة المالية لم تستعد بعد للدخول عبر بوابة ما تسمى بـ«التقنية المصرفية» أو «الابتكار المالي الرقمي» أو «التكنولوجيا المالية»، هي كلها تصب في مسمى واحد هو «فينتك» «Fintech» وهو اختصار «Financial Technology»، هذا المصطلح الذي سمعنا به منذ سنوات ولكن لم نأخذه على محمل الجد لنتصوره بهذه الكيفية وإن كان يحمل في مضامينه خدمات مالية أكثر شمولية، لم تكن هناك آليات العمل الرقابي في دنيا التكنولوجيا المالية.

هو ذاته مثل «البيتكوين» تلك العملة التي كانت تظهر لنا في إعلانات الهاتف والحاسوب، لم نكن نعتقد يوما أن هناك عملة في عالم الإنترنت مشفرة كانت كالوهم، أو بشكل أدق كألعاب البلايستشين، أو كلعبة «المونوبولي» التي كانت تشبع ذاتنا في أن نحصد الأموال ونستثمر بها، لم يكن الأمر سوى «لعبة» نعيش وهمها حتى تنتهي، العديد كان يهمل هذا الإعلان لأنه لا يصدقه.

اليوم تحولت اللعبة إلى حقيقة، ففي دنيا «فينتك» أو الذكاء الرقمي المصرفي هناك عملات إلكترونية حقيقية ومعاملات حقيقية وخدمات حقيقية وسوق حقيقة كلها تجدها بجانب ألعابك الإلكترونية على جهازك الذكي، يتم توثيقها تقنيا وليس ورقيا ونحن الذين مازلنا نعطي للورق ذلك الاهتمام.

قبل سنوات كان الإعلان عن البطاقة الذكية أكبر من خدماتها بعد أن تم تطبيقها، أصابنا بنوع من الخيبة، لم يكن الأمر «الذكي» يشكل فارقا، الاختلاف بين البطاقة المدنية الذكية والصيرفة الرقمية هو الاستثمار في قطاع خاص يولي الابتكار أهمية كبرى لأنه أدة تحقيق الممكن في وسط سوق تنافسية، يكون فيها الغلبة للأفضل في الإنجاز والجودة والسرعة لتكتسب الثقة.

فالثقة المصرفية تعتبر أمرا في غاية الحساسية للمصارف فهي تؤثر في سمعتها السوقية، لذا فإن إجراءات الخدمات المالية عادة ما تستدعي حضور الشخص ذاته وتوقيعه الذي لا يمكن أن يختلف عن أول توقيع في تعامله مع المصرف. هي خدمات بيروقراطية يعتبرها الفرد العادي، ولكنها خدمات أمنية خاصة جدا يعتبرها المصرف، بالذات وفق إجراءات تشريعية قاسية وملزمة لبيئة الاستثمار وممارسة الأنشطة المصرفية في البلد الواحد التي ينص عليها اتفاق الرقابة المحلي والعالمي للحد من نسبة المخاطرة، وهذا الأمر يشعر بالاطمئنان أحيانا وبالضيق أحيانا أخرى لدى عامة الأفراد.

الاستثمار في مجال المصارف الرقمية هو مشروع أكثر من مجدٍ على كافة الصعد الاقتصادي والاستثماري وحتى الاجتماعي، إنه ينهي التعاملات الورقية والمباشرة ويحد من الالتزامات والعمليات المعقدة، ولكن تبقى القاعدة التشريعية والرقابية والانضباط والحد من المخاطرة في ظل التنافسية أهم التحديات التي تعيق تقدمها في الوقت الحالي فقط.