هل فقد العالم عقله؟ هل تحولت الكرة الأرضية في زمن كورونا مستشفياتٍ ومصحاتٍ جوالة للمجانين؟
عندما نجد أنه مع استرجاع الوباء الكوروني زخمه في عدد من البلدان الأوروبية، كإسبانيا وإيطاليا وألمانيا، وصولاً إلى معدلات غير مسبوقة من الإصابات في الهند والبرازيل والولايات المتحدة، تتصاعد احتجاجات منظمة وعشوائية في هذه المدن، (وخصوصاً أوروبا) رفضاً لقرارات العزل، ووضع الكمامات والتباعد الجسدي. واعتبار كل ذلك مؤامرة دولية، أو انتهاكاً للحرية، وضرباً للديمقراطية، وكأنها ذرائع لدى تيارات مختلفة ترى أن كورونا خدعة لمنع الأنشطة والتحركات الاجتماعية، لتتحول بعض المدن الأوروبية بالذات ساحات مفتوحة لاحتجاجات لا تكتفي بالتظاهر السلمي، بل تجنح إلى العنف والتخريب، كما حصل مؤخراً في برلين عندما حاولت مجموعة «نيونازية» اقتحام مبنى البرلمان رافعين الشعارات والأعلام النازية. المشهد ذاته يتكرر في روما، لكن بشعارات الفاشيين الجدد، تنديداً بالمؤامرة التي حاكتها المصانع العالمية للأدوية، وكبرى الشركات «متعددة الجنسية»: الفاشية والنازية تتقاسمان هذا الجنون، للتصدي لكل التدابير الوقائية الملزمة، لكن يبدو أن جماعات يمينية أخرى بدأت تنضم إلى هذه الحركات، من هيئات نسائية وتنظيمات بيئية وحتى «طلابية». تجتمع كلها كحزمة واحدة حول «نظرية المؤامرة»، وتطالب بإسقاط «الديكتاتورية الصحية»، والعودة إلى استئناف النشاط الاقتصادي، ومنع اتخاذ تدابير جديدة للعزل، ومن المتوقع أن تتصاعد هذه التحركات الشعبوية (المؤدلجة وغير المؤدلجة) بعد العودة إلى المدارس.
لكن، الغريب، أننا نجد مثل هذه النوازع تخترق أيضاً أحزاباً ومثقفين وهيئات يفترض أنها تعابير مدنية وديمقراطية واعية، وأدمغ مثال على ذلك أن بعضهم رفع دعوى على الرئيس ماكرون لأنه فرض وضع الكمامات والعزل والتباعد الجسدي. وبأنها تهديد للحرية، واستباحة لها، بل وذهب بعضهم إلى مطالبته بالاستقالة، أو إلى تشبيهه بروبسيير (الطاغية في الثورة الفرنسية).
كأن كورونا جمع خليطاً من التناقضات والنوافل السياسية والآيديولوجية في توجهات تجاوزت الكورونية إلى تشاكيل فوضوية، معارضة، تستغل تصاعد الوباء، لتسجيل أهداف سياسية أو غير سياسية، لكن بطرق لا يقبلها منطق ولا عقل: من انتهازيين أو متدينين، أو متزمتين. كأننا نشاهد مسرحية عبثية لبيكيت أو يونسكو أو فيلماً قديماً من أيام النازية: أمور خارج التاريخ بل هي اللاتاريخ بعينه واللاإنسانية بل هي في بعض جوانبها تعود إلى العصور الحجرية واستدرار المعجزات واستجلاب الموت نفسه. ولو تعمقنا لوجدنا أنها ظواهر انتحارية، فردية وجماعية: أن ترفض الكمامات والعزل مع تصاعد أعداد المصابين يعني أن ترتمي في أحضان الموت ارتماءً طوعياً، فكيف يمكن أن يجازف الإنسان بحياته وحياة الآخرين.
أهي نزعات انتحارية كامنة؟ أيأس من الحياة! أهي عدوانية؟ شيزوفرانية؟ انتقام من الذات؟ أجنون يدفع الأفراد والجماعات إلى أقصى درجات العبثية واللامعقولية؟ ناهيك عن ظواهر الاستهتار واللامسؤولية عند كثيرين في العالم الذين "يرفضون" ولكلٍّ أسبابه الخاصة التزام متطلبات الوقاية لكورونا. وكونها قرارات فردية لا يعفِيها من المشاركة في تصاعد الكورونا أعداداً، ومدّه وجزره، وغيابه وعودته بأقوى!
أخيراً، لا جولات لكورونا، أو موجات: بل حركة واحدة منذ نشوئه.. لتبقى المسؤولية الكبرى على عاتق الناس من كل حدب وصوب!