تمر الكويت حالياً ومنذ الشهور القليلة الماضية، تحديداً، في مرحلة سياسية دقيقة للغاية، دقيقة في طبيعتها وتداعياتها، ودقيقة أيضا من حيث حجم قضايا الفساد، فالفساد باتت له مؤسسة تقوم على عمل ممنهج لقوى نافذة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، نتيجة فوضى عارمة في السلطتين التنفيذية التشريعية.

في الماضي البعيد والقريب، كنا نعتب على الحكومة على ما تواجهه الدولة من تراجع وتخلف على مختلف المستويات، ومن ثم انتقلنا إلى مرحلة التحسر والندامة، حتى تطور الأمر إلى توجيه النقد القاسي وصدور البيانات الشعبية الحادة والاعتصام والتظاهر.

حتى لا نذهب بعيدا ونشتت التركيز، لنعد إلى مرحلة مواجهة شعبية واسعة النطاق، وهي المرحلة المعروفة بدواوين الإثنين، بعد تعليق مواد الدستور وحل مجلس أمة عام 1985، حيث برهنت الإرادة الوطنية على تماسكها وصلابتها في مواجهة سلمية لقرار سياسي لا يختلف، مضموناً وهدفاً، عن قرارات حكومية سابقة.

صحيح أن تحديات الثمانينيات والسبعينيات والستينيات وما ترتب عن ذلك من صدام شعبي مع السلطة الحكومية، كانت لها طبيعة خاصة، لكنها تتلاقى من حيث الظروف السياسية، لا سيما القرارات الحكومية، التي سيطرت عليها رؤية ضيقة لتلك المراحل التاريخية، وهو ما يعني عدم استيعاب حكومات متعاقبة لدرس سياسي واحد.

نواجه اليوم، مع الفارق الكبير لحجم الاختلاف لطبيعة الظروف والتطورات، تهديداً وليس تحدياً، تهديداً مباشراً لحاضر ومستقبل الكويت وطناً وشعباً، حيث يبدو أن المؤسسة التشريعية دخلت بتحالف مع الحكومة ضد المصلحة الوطنية، وهو تطور سياسي مفزع.

نحن اليوم أمام غزو داخلي للفساد والاختراق للمؤسسة الأمنية وتقاعس الأجهزة الرقابية الحكومية، في رصد تحول الكويت إلى منصة غسل الأموال على يد شيوخ وآخرين، إلى جانب فقدان المواطن الثقة بالدور الأمني للحكومة في ضوء تسريبات أمن الدولة.

فإحالة هذه الملفات إلى النيابة العامة هو إجراء قانوني مستحق، لكنه ليس شافياً من الناحية السياسية، ولا يساعد على التأني في الحكم الشعبي على أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية، حيث لم يصدر قرار سياسي جاد نحو إنقاذ مؤسسات الدولة من الانهيار.

إننا على أبواب انتخابات برلمانية جديدة، قد تكون نتائجها مثل الانتخابات السابقة أو أسوأ منها، أو بتغير محدود جداً، وهو ما سيقود إلى عودة نفس المشهد السياسي المعقد حالياً.

في هذه الظروف، ليس من المستبعد أن تكون هناك ردة فعل شعبية غاضبة، ردة فعل قد تقود إلى عودة الحراك السياسي في شوارع الكويت كما حصل قبل سنوات.

لا شك أن العلة الكبرى تكمن في النظام الانتخابي الحالي، الذي مزق مكونات النسيج الكويتي وساعد على اختلال ميزان التمثيل الشعبي في مجلس الأمة، وانتزع ثقة المواطن في هيبة الدولة.

لم يعد مطلوباً مبادرة حكومية إصلاحية، فالحكومة الحالية لن تقوى على تقديم البديل المنشود، وإنما البديل ممكن أن يأتي من البوابة الشعبية، بوابة التيارات السياسية والفكرية والمدنية، وليس المؤسسة التشريعية بشكلها الحالي التي باتت ظلاً للحكومة.

ينبغي للحكومة والمجلس عدم إنكار تواضع القرار الحكومي والتشريعي وخضوعه للمساومات والتجاذب السياسي بين بعض أفراد في أسرة الحكم وقوى مستفيدة من الفوضى الحتمية، فليس هناك مخرج من كل هذه التهديدات سوى بالرجوع إلى الإرادة المدنية، من دون انتقائية أو تهميش لفئة معينة.

ليس هناك خيار وحل للوضع القائم المعقد سياسياً للغاية سوى بتبني التيارات السياسية والفكرية ومؤسسات المجتمع لحوار وطني مدني بهدف تحقيق التالي:

أولا، تصويب مسار العمل الوطني وإنقاذه من حالة التشرذم والتمزق والانشقاق، وهو هدف ليس مستحيلاً إذا ما توافرت الإرادة الشعبية المرنة نحو التلاقي والتنازل من أجل الكويت، حاضراً ومستقبلاً.

ثانيا، تطوير ما طُرح من محاور سياسية لمصالحة وطنية عميقة، مصالحة وطنية تستفيد منها الكويت، وطناً وحكومة وشعباً، لتضميد الجراح السياسية.

ثالثا، الخروج برؤية سياسة موحدة بهدف معالجة النظام الانتخابي الحالي وتقديم الحلول والمرئيات للمراجع في الدولة، من أجل إعادة التوازن للعلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية والفصل بينهما.

لنجعل الإصلاح السياسي الشامل والمصالحة الوطنية هدفاً وطنياً ونهجاً سياسياً نلتقي عندهما ولا نفترق، فانتشال الكويت من مستنقعات الفساد السياسي ليس أمراً هيناً، ولا الإصلاح خياراً ليراجع، بل إن التهديدات الحالية قد تتحول إلى تطور سياسي أشد عمقاً مما شهدته الكويت في العقود الأخيرة.